غنوا لأجل الحرية، كان الجموح عنوانًا لأغانيهم، أسّسوا فرقة ليس من السهل نسيانها، كتبوا تاريخهم بماء الذهب. لم يكن تكوينهم موسيقيًا، ولم يكونوا متعلمين، إلا أنهم كانوا حاضرين بقوة؛ إنهم "ناس الغيوان"، أو "الرولينغ ستون" المغرب؛ فبرغم من مرور عقود إلا أن شباب الثائر ما زال يتغنى بأغانيهم الخالدة.
خرجت فرقة"ناس الغيوان" من أكثر أحياء الدار البيضاء فقرًا
ولدت فرقة "ناس الغيوان" من رحم المعاناة في مطلع السبعينات من القرن الماضي، فانبثقت فرقة تتكون من خمسة أشخاص. لم يدخلوا معاهد موسيقية، ولم يعيشوا حياة الترف والدلال، بل كانت طفولاتهم قاسية، تشهد عليها ممرات أحياء الصفيح الضيقة في الحي المحمدي بالدار البيضاء. هذا الحي الشاهد على ظاهرة فنية أطلت على المغاربة والعرب من رحم الفقر والتمرد، تدعى "الظاهرة الغيوانية" نسبة لاسم الفرقة الذي يعني كثرة التنقل والترحال.
اقرأ/ي أيضًا: الحياة بوصفها "طنجرة ضغط"
كانوا خمسة، ثلاثة منهم خطفهم الموت من محبيهم: مؤسس الفرقة، أو الأب الروحي بوجميع أحكور، وشاعر الفرقة العربي باطما، فضلًا عن عبد الرحمن قيروش المعروف بـ"باكو". ولم يبق سوى عمر السيد وعلال يعلى، الشاهدان على التاريخ الذي تم تسجيله بماء الذهب، كما صرح عمر السيد في أحد اللقاءات الصحفية.
سنوات من التمرد
بالرغم من مرور سنوات من التألق والتمرد والجنون والأحلام، والبحث عن كل ما هو جديد، في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، لا يزال الجيل الجديد من المغاربة يتغنى ويردد أغاني هذه الفرقة الخالدة. وفقًا للباحثين في الظاهرة الغيوانية، فأن الفرقة بالرغم من التزامها الفني، تمردت على كل ما هو موجود في الساحة الفنية بالمغرب، وأطلت على الجمهور بطريقة غير معهودة. فقد تأسست فرقة "ناس الغيوان" خلال محاولات الانقلاب على الملك الحسن الثاني، التي تلتها مرحلة عرفت عند المغاربة بـ"سنوات الرصاص"، وكانت مرحلة سوداء وحزينة في الذاكرة المغربية، لكن "ناس الغيوان" كانت مصرة على ترديد أغانيها مثل "فين غادي بي أخويا؟" و"علام القبيلة خرف"، ليبدو للجمهور، خصوصًا يساريو المغرب، أنهم أمام فرقة سياسية، لكن على مدار عقود، تغنى الغيوانيون بالهموم الصغيرة للناس.
كما أن الملك الحسن الثاني كان يطلب فرقة ناس الغيوان لسماع أغانيها، وقد وثقت بعض الصحف المغربية حوارًا بين الملك الراحل وأحد أعضاء الفرقة، حول إيقاعات الموسيقى.
كان جمهورهم واسعًا ومتنوعًا بين اليسارين الذي كانوا يجدون ضالتهم في أغان تنتقد الفوارق الطبقية، وبين محبي المدائح الدينية، الذين كانوا ينشدون "الله يا مولانا" بشغف صوفي. أيضا تغنت فرقة ناس الغيوان بالوحدة العربية، وكانت القضية الفلسطينية حاضرة في أغان كثيرة مثل "صبرا وشاتيلا"، التي تعد من أبرز الأغاني العربية عن هذه المجزرة الشهيرة. بعض المهتمين بالشأن الموسيقي يرون أن "ناس الغيوان" هي الفرقة الوحيدة التي تذكر المغاربة بمجموعات عالمية مثل "الرولينغ ستون" و"بينك فلويد".
هزات متلاحقة
عاشت فرقة "ناس الغيوان" هزات تتالت تباعًا عرفتها؛ فالموت أبى إلا أن يخطف الأب الروحي؛ بوجميع، الذي غادر هذه الحياة باكرًا، في الثلاثين من عمره، أي في سنة 1974. فوجئ بموته جمهوره الواسع، وأصدقاؤه المقربون، خصوصًا العربي باطما، الذي رفض الغناء من بعده. موت بوجميع هز الفرقة بأكملها، واندلعت أسئلة الجمهور حول مستقبل فرقة "ناس الغيوان" من بعده، لا سيما وأن البعض يرى أن بوجميع لم يمت بشكل طبيعي، بل إن شقيقه أشار في العديد من الحوارات الصحافية إلى ظروف غامضة.
لا يزال المغاربة، شبابًا وشيّبًا، يستمعون إلى "ناس الغيوان" بشغف
أصر العربي باطما، أحد مؤسسي الفرقة أيضًا، على إبقاء مكان بوجميع فارغًا إكرامًا لروحه الثائرة.
اقرأ/ي أيضًا: الروك.. في ديوان العرب
لكن حدثًا آخر هز الفرقة، وهو وفاة قنديل "ناس الغيوان" باعروب، أو العربي باطما، أحد ركائز هذه الفرقة، وذلك سنة 1997، عن سن 49 سنة، ليخفت بريق ناس الغيوان من بعده، حيث سينفصل عبد الرحمن باكو، صاحب الصرخة الشهيرة في أغنية "لله خذوني"، عن المجموعة
لم يرحلوا
ما زال المغاربة يستمعون إلى "ناس الغيوان"، سواء الجيل القديم أو الشاب، ومازالت أغانيهم تعبر عن ما يخالج المغاربة، فلا تتفاجأ أبدًا وأنت تسمع شابًا أو شابة في مقتبل العمر، مغرمة بهم، وتردد أغانيهم بتلك الروح نفسها التي كان يتغنى فيها أعضاء الفرقة، مثل "مهمومة هاذي الدنيا مهمومة"، فالحال لم يتغير أبدًا، ولا تزال المعاناة نفسها متمثلة في عطالة وفقر الشباب، وأحلامهم في العيش الكريم وتحقيق الذات، والتخبط الفكري والسياسي أيضًا الذي ينتاب الشباب المغاربي والعربي. كما قد تصادف اليوم كلمات أغانيهم في تدوينات الشباب على مواقع التواصل، أو في إحدى الوقفات الاحتجاجية، أو في المظاهرات التي تطالب بالحياة والحرية، ولا عجب في ذلك، فهذه فرقة "ناس الغيوان"، ناس الزمن المغربي في الماضي والحاضر.
اقرأ/ي أيضًا: