جئنا هُنا، لنعيش هذه الأيام التي لا تُعاش دون رغبة.
لم نَسأل عن الطريقة التي سُحلنا بها من رحم أمهاتنا، فالأسطورة تقول إن من خرج من الباب الذي يقع أسفل البطن كان نصيبه رأسٌ مستوي الأبعاد، أما الذين هبطوا النفق الضيق، فإن رؤوسهم اتخذت شكل الطريق، لكننا جميعًا، تنفسنا حقيقة الهواء حين تحولت غريزة الولادة إلى مسؤولية لا تنتهي.
عقلاء هذا الوقت يفكرون ألف مرّة ومرّة ليتخذوا قرار إحضار كائن جديد فيعيش ما نعيش، ويواجه كل ما حاولنا تفاديه ونجونا - حتى اللحظة - من ضعف نعلم تمامًا أنه إن زارنا؛ ستصير أيامنا مالحة للدرجة التي ستستدعي ارتفاع ضغط أحلامنا، سنتقاعد من كل شيء ونعيش على هامش انتظار صوت مفتاح "اللمبة"، فننام.
*
أن تفعل ما تريد يعني أن تتقبل غيرتهم منك.
وأن تعتادَ حقيقة أنهم يكرهونك.
يكرهونك، لأنك تعيش ما يحلمون، وما لا يستطيعون.
أن تعيش ذاتك يعني أن تكون على استعداد لتضع نفسك أولًا أمام الآخر دون حرج.
أن يُعطي قلبك موافقةً مؤقتة لتمردات عقلك، وأن يكون عقلك عالمٌ بحدود هذه الموافقة،
فذلك سببٌ جميل يستحقُ الاحتفال.
**
مات كثيرٌ منا بسبب "فشل أعضاء متعددة" (Multi organ failure).
وصفٌ بسيط لملء التقرير الطبي، وحجّة الأطباء لإصدار شهادة الوفاة من مكتب الأحوال المدنية.
لن يتمكن العلم من فهم السبب المؤدي لهذا الفشل في التواصل بين ما نخبئُ من أعضاء، ففي لحظة ما، ستقررُ أكبادنا وكِلانا ورئتانا وطحالنا وأمعاؤنا أن خلاصها الفردي هو الملاذُ الأخير، وحينها فقط، سنستدعي الغريب لينقذنا من أنفسنا.
سنحاربُ أنفسنا بيدِ غيرنا وسننهزم.
فلا أحد يعرفنا تمامًا مثلما تعرفنا هذه الأعضاء التي أبقتنا أحياء إلى هذه اللحظة.
والتاريخ – برغم زيفه – لم ولن ينكر قوة شعبٍ قرر أن ينتصر.
غرفُ العمليات مسارحُ الثورات،
ثوراتٌ صامتة.
تنتصرُ حين نموت.
ماذا لو كان موتنا انتصار العاديُّ على العادي؟
لكن الفارق بينهما كان خللٌ في التواصل، وخطأ مصنعي.
نموتُ حين ترفضُ أعضاؤنا ما نعيش.
نموتُ لأجل راحتها.
تُميتنا لتعبها منّا.
تعبنا، فدفعناها لحافّة القرار،
فقضت علينا.
سنتبرع بها لنستلذ بقدرتنا على اتخاذ القرار مسبقًا
نستلذ بالشعور لأننا لن نهتم بعواقبه.
أرسلنا قرنياتنا إلى مجهولٍ لا نعرفه،
وحينها فقط، ستصيرُ معادلة متساوية.
فنحنُ، وما حملنا من أعضاء صرنا في المجهول.
المجهول الذي أرسلنا بعضنا إليه.
***
تحتاج الأولمبياد لأربع سنوات لتقام ويستعرض الرياضيون جدارتهم، ولم ينتبه أحد حتى اليوم إلى ما خسروا من لحظات لأجل معدنٍ يلمع، ولأجل سد الفراغ الذي عشناه وهمًا يفيد بأن الأسرع والأقوى والأذكى والأصبر… هو من يستحق هذه الحياة.
وأننا لا شيء،
نحن الذين لا نعرف تكتيك رمي القرص، ومهارة الوثب العالي ليست لنا.
إمّا ان نكون أبطالًا يُصَفقُ لنا،
وإمّا نحن لا شيء.
****
لو كانت هذه الحياة اختبارًا
فأنا سيدُ الراسبين.
ولو كانت سباقًا،
أول المنسحبين أنا.
ولو كانت لهوًا،
سأصيرُ شيخَ اللاهين.
وإن كانت عبثًا،
سأرمي عن كتفيّ ثقل المكترثين.
ولو كانت إصدارًا تجريبيًا؛
سأطالب الإله بإلغاء الموت في نسخته النهائية.
أما إن كان كل ما عشناه وهمًا؛
فسأخرج في مظاهرة مطالبًا بما أستحق من تجربة.
وإن كانت هي الحقيقة،
فلن أغيّر فيّ شيء،
وسأنتظر صافرة الرب ليعلن نهاية الوقت،
الوقت الأصلي والإضافي للمباراة التي نعيشها.
فهذه هي المباراة الوحيدة التي قد ينتصر فيها الفريقان، وهي المباراة الوحيدة التي لن يهتم أحد بعدد الأهداف المسجلة.
فما يهم حكم السماء، شيئًا واحدًا فقط؛
أن لا تتداعى هيبة اسمه بين طوابق "قصر العدل"، وأن لا يحكم أحد على أحد.
*****
خلاصة؛
صبر الرب علينا نشعر بحنينه.
صبر غيرنا علينا نشعر بجحيمه.