منتصف آذار/مارس الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت عن اتفاق لإطلاق "مسار جديد" للرحلات بين بلده ومصر. وبعد أقل من شهر، وفي يوم الأحد الماضي، 17 من نيسان/أبريل، هبطت أول رحلة تجارية قادمة من إسرائيل في مطار شرم الشيخ، مفتتحة ثلاث رحلات أسبوعية إلى المدينة السياحية الواقعة في جنوب سيناء. ولم تكن تلك هي المناسبة الوحيدة التي تم جدولتها لتوافق احتفالات الفصح اليهودية. ففي اليوم نفسه، كان من المخطط انطلاق مهرجان "نابيا" الذي تنظمه جهات إسرائيلية في فندق توليب المملوك لأحد الشركات التابعة للقوات المسلحة المصرية في مدينة طابا بجنوب سيناء. كان تنديد حركة المقاطعة في مصر بالمهرجان، والضجة الإعلامية التي تبعته، سببًا في الإعلان عن تغيير مكان إقامة فعالياته، وهو ما بدا كمحاولة من الجيش لأخذ مسافة عن القضية، وتفادي تورطه فيها بشكل مباشر.
من البديهي افتراض أن مصر بلد سياحي بشكل تاريخي، إلا أن الماضي القريب يشير إلى غير ذلك
ومع أن القوات المسلحة تسيطر عمليًا، بأشكال قانونية وعرفية متعددة، على الأنشطة الاقتصادية في سيناء، عبر عمليات تخصيص الأراضي ومنح التراخيص والموافقات الأمنية، إلا أنها ليست اللاعب الوحيد. فمن جهة القطاع الخاص، كان موقف لجنة السياحة بالاتحاد المصري لجمعية المستثمرين، على لسان رئيسها سامي سليمان، متوقعًا إلى حد كبير. فبعد الإشارة إلى الخسائر التي تكبدها القطاع السياحي بسبب كورونا وبعدها الحرب في أوكرانيا، وجه سليمان بشكل استنكاري دعوة للمطالبين بالمقاطعة إلى تعويض الفنادق. وبالإضافة إلى الضرورة الاقتصادية التي تذرع بها، قام سليمان بعملية فصل بين السياحة والسياسة، مشيرًا إلى أن مرتادي المهرجان ستكون غايتهم "ألأكل والشرب والغناء والرقص... وإيه علاقة ده بالاحتلال؟"
على الجانب الآخر من الحدود، تبدو السياحة مسيسة أكثر مما يظن رئيس جميعة المستثمرين المصرية. ففي الفصح الماضي، ومع إعلان الحكومة الإسرائيلية عن السماح لمواطنيها بقضاء إجازات الأعياد في سيناء، ثارت اعتراضات داخلية على أكثر من مستوى. فالعدد المسموح به للمرور من معبر طابا كان محددًا قبلها بثلاثة آلآف إسرائيلي فقط، كإجراء احترازي من الحكومة الإسرائيلية لمنع التفشي الوبائي، وكان رفعه يعني تنازلًا عن الأولويات الصحية لصالح حسابات أخرى. أما الاعتراض الأعلى صوتًا فجاء من عمدة مدينة إيلات، والذي اعترض على عدم قيام الحكومة بالترويج للسياحة الداخلية، بدلًا من تشجيع مواطنيها على قضاء الأعياد في الخارج.
بشكل متأخر، وفقط في العقدين الماضيين، التفتت دراسات السياحة إلى المناهج النقدية. قبل ذلك كان النقاش الرئيسي يدور حول الأنشطة السياحية بوصفها مجالًا للاقتصاد السياسي. فالمدارس الليبرالية رأت فيها واحدة من أدوات التنمية في العالم النامي والاندماج في السوق الحر، وبشكل أكثر تفاؤلًا كطريقة غير مباشرة لتشارك الثروة بين الشمال والجنوب. أما التيارات الماركسية الجديدة، فذهبت إلى أن الحركة السياحية تتضمن عمليات استغلال غير مباشرة، حيث يتحصل السياح القادمون من دول الشمال على الخدمات والسلع بأسعار زهيدة بفضل فوارق العملة وعلاقات التبعية الاقتصادية القائمة بوجه عام. بالإضافة إلى ذلك، عمّق توسع القطاعات السياحية في بعض دول الجنوب من اعتماد اقتصادها على السياحة القادمة من دول الخارج، مما ساهم في تعميق هشاشتها أمام التقلبات العالمية وتوسيع التفاوت في موازين القوى بينها وبين دول الشمال المصدرة الأكبر للسياحة. وبالأخذ في الاعتبار الأثر البيئي لحركة السفر والتخريب الذي يمكن أن تلحقه الاستثمارات السياحية بالبيئة وبالمجتمعات المحلية وعناصرها المادية والثقافية، والعنف الممارس في سبيل خلق مساحات سياحية معزولة ومسورة، وكذا الأبعاد الجندرية للسياحة الجنسية واستغلال القصر، كل هذا ساهم في توسيع الجدالات النقدية داخل دراسات السياحة.
قد يبدو من البديهي افتراض أن مصر بلد سياحي تاريخيًا، إلا أن الماضي القريب يشير إلى غير ذلك. فنمو القطاع السياحي، وبالأخص في سيناء، وتعاظم نسب مساهمته في الاقتصاد المصري، عمره لا يتجاوز ثلاثة عقود، وارتبط بأشكال مباشرة وغبر مباشرة بالصراع مع إسرائيل والتسوية معها. فالبنية التحتية المتخيلة للسياحة الاستجمامية في سيناء تم رسمها تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967. ولاحقًا، وفي اتفاقية كامب ديفيد، كان تضمين حق الإسرائيليين في الولوج إلى القطاعات السياحية في شبه الجزيرة دون قيود، دلالة موثقة على علاقات السيطرة والإخضاع التي تحكم حركة التنقل على جانبي الحدود، فالسياحة هنا تبدو كغنيمة حرب أكثر منها عربون مصالحة، أو يمكن القول بطريقة أخرى إنها استمرار لممارسة الهيمنة ولكن بشكل غير مباشر.
ليس من باب المصادفة، أنه بين عامي 1973 و1974، أصدرت الحكومة المصرية عددًا من القوانين التي أسست لعملية تحرير القطاع السياحي. كانت تلك جزءًا من سياسات التحول إلى اقتصاد السوق، وكذا خطوة نحو الانفتاح على العالم الغربي، في سياق رغبة نظام السادات في التقارب مع الولايات المتحدة وتسوية الصراع مع إسرائيل . إلا أن التحول الحقيقي لم يحدث إلا بعد وصول مبارك للحكم وعودة سيناء. إذ سيصدر في العام 1981 واحد من أول القرارات الرئاسية في عهد مبارك، بتوسيع صلاحيات وزارة السياحة، وفي العام التالي ستبدأ سلسلة من الخطط الخمسية التي تضع من ضمن أولوياتها تنمية السياحة. في عقد الثمانينات سيشهد القطاع السياحي نموًا متواصلًا، إلا أن القفزات الكبرى ستحدث في العقد اللاحق. ستتضاعف مداخيل السياحة، من مجرد 512 مليون دولار في موازنة 1981-1982 إلى 6.45 مليار دولار في 2004-2005، أي 12 ضعفًا في عقدين فقط. ترافق هذا النمو الاستثنائي مع هبوط في مداخيل العملة الأجنبية من تصدير البترول، أما القطاعات التي شهدت نموًا فلا يمكن مقارنتها بالقفزات الهائلة للاقتصاد السياحي. بمطلع الألفية كانت مداخيل السياحة من العملات الأجنبية قد وصلت إلى 20 بالمئة من إجمالي المداخيل للموازنة العامة، لتصبح أهم مصدر للعملة الصعبة في البلاد، وبالتوازي تحولت شرم الشيخ إلى مقر بديل للحكم، بعد أن انتقل إليها مبارك بشكل شبه دائم.
وراء تلك المؤشرات الاقتصادية المفرطة في التفاؤل، كان هناك واقع أكثر تعقيدًا. فتوسع السياحة، كان يعني عزلًا للمناطق السياحية وبالأخص في سيناء. استمرت السياسات الأمنية التي همشت بدو المنطقة، وتم حرمانهم من الدخول إلى السوق الرسمي والمناصب العامة بشكل كبير، وتم التضييق على أنشطتهم الاقتصادية التقليدية. أما حركة التنقل بين سيناء وبقية المحافظات فخضعت لرقابة أمنية منعت الأغلبية الساحقة من المصريين من الوصول إلى هناك، سواء كان ذلك بغرض السياحة أو بحثًا عن عمل. ووصلت سياسات العزل مع تفاقم الهجمات الإرهابية على الأهداف السياحية إلى حد بناء سور أمني حول مدينة شرم الشيخ.
لكن الأسوأ من ذلك هو الاعتماد المفرط للموازنة العامة على مداخيل السياحة بالعملة الصعبة، وهشاشة الوضع الاقتصادي أمام الهزات الأمنية في الداخل والتقلبات الخارجية. على سبيل المثال، دفعت الضربة القاسية التي تلقتها السياحة الشاطئية في مصر بعد تفجير الطائرة الروسية في شرم الشيخ العام 2015، إلى تقديم الحكومة المصرية لتنازلات غير مسبوقة بخصوص سيادتها على مطاراتها. فمفاوضات استمرت لسنوات، وزيارات متكررة من فرق تفتيش روسية على المطارات المصرية، انتهت باتفاق لعودة السياحة الروسية إلى سيناء بشرط تسليم تأمين صالات وصول السياح القادمين من روسيا إلى مندوبين روس مقيمين بشكل دائم في مدينة شرم الشيخ. وبسبب تلك الاعتمادية الخطرة، وأثناء فترة الوباء، استمرت الموانئ المصرية مفتوحة أمام السائحين، باستثناء فترة قصيرة جدًا، متجاوزة احتياطات الصحة العامة وحياة المواطنين لصالح أولوية السياحة.
بعد سنتين من الوباء وتحديات أخرى عديدة، لا يستطيع النظام المصري التفكير سوى بنفس الطرق القديمة، جذب السياحة بأي ثمن
بعد أكثر من عامين من وباء كورونا، وتوقف حركة السياحة الروسية الأوكرانية إلى مصر بسبب الحرب، وتبعات كل هذا من مصاعب حادة يواجهها الاقتصاد المصري، لا يستطيع النظام التفكير سوى بنفس الطرق القديمة، جذب السياحة بأي ثمن.