أصدرت "منشورات جدل" في الكويت، حديثًا، الطبعة العربية من رواية "اثنان" للكاتبة والروائية الفرنسية الروسية إيرين نيمروفسكي، ترجمة الشاعر والمترجم اللبناني بهاء إيعالي الذي سبق أن أعلن على صفحته الشخصية في فيسبوك، أنه بصدد الاشتغال على ترجمة الأعمال الكاملة للكاتبة.
تنقلب نيمروفسكي في روايتها هذه، الصادرة بطبعتها الفرنسية الأولى على شكل فصول عام 1938 في مجلة "Gringoire"، وعلى شكل كتاب عن دار "Albin Michel" عام 1939؛ على أسلوبها ومواضيعها التي دأبت على الكتابة عنها طيلة حياتها، لصالح ثيمة جديدة تركّز على رسم واقع الشباب الفرنسي خلال السنوات العشرين ما بين الحربين العالميّتين، لا سيّما على الصعيد العاطفي. وهي ثيمة لم يسبق أن اشتغلت عليها، ولن يقدّر لها تكرارها أيضًا، وهو ما يمنح هذه الرواية فرادة خاصة في تجربتها الأدبية القصيرة نسبيًا والخالدة.
تركّز إيرين نيمروفسكي في روايتها "اثنان" على رسم واقع الشباب الفرنسي خلال السنوات العشرين ما بين الحربين العالميتين
تسلط نيمروفسكي في هذه الرواية الضوء على الحال الذي وصل إليه الفرد الشاب في تلك المرحلة الزمنية العصيبة بنبرة يتّفق معظم النقّاد على أنها نبرة ساخرة، نبرة الهجاء الاجتماعيّ التي تحلّل العاطفة بصرامة، وتشرّح العلاقات الزوجية في فئة مجتمعية توقف عندها الزمن عند اندلاع الحرب، فوجدوا أنهم لا زالوا في فترة المراهقة إلى حدٍ ما.
لكن هذه السخريّة لا تخلو من الشفقة التي أبدتها صاحبة "الكلاب والذئاب" تجاه هذه الفئة، وهي شفقة كاتبة يسبقُ وعيها عمرها، ولذلك يمكن القول إن الرواية تُضمر: "الكثير من الحب، الكثير من العنف، والكثير من السخرية".
ولدت إيرينا ليونيدوفنا نيمروفسكايا، والتي عُرِفت لاحقًا باسم إيرين نيمروفسكي، في كييف في 24 شباط/ فبراير 1903 لعائلة يهودية روسية برجوازية، أُجبرت على مغادرة كييف عقب نجاح الثورة البلشفية وقيام الإتّحاد السوفييتي، إذ كان والدها، المصرفي البارز، مطلوبًا من قبل الشيوعيين. وبعد عام أقامت خلاله بين فنلندا والسويد، تمكنت العائلة من الوصول إلى فرنسا، حيث استقرّت هناك وبدأت نيمروفسكي مسيرتها الأدبيّة.
بدأت الكاتبة مسيرتها بنشر بعض القصص القصيرة إضافةً إلى روايتها "الالتباس" (Le Malentendu) عام 1926، والتي تلتها رواية "العدو" (L’Ennemie) عام 1928، قبل أن ترسل عام 1929 مخطوط روايتها الثالثة "دافيد غولديه" (David Golder) إلى الناشر برنار غراسيه.
وقد حقّقت هذه الرواية شهرةً كبيرةً جعلتها من أهمّ كتّاب وكاتبات الثلاثينيّات في فرنسا، حيث احتفى بها كبار النقّاد، وجرت مقارنتها بكلٍ من هنري دو رينييه، وتريستان برنار، وبول موران. لكن هذا لم يستمر طويلًا، إذ أصبحت نيمروفسكي ضحيةً للدعاية الآريّة (Arisierung)، التي قام بها النازيّون لإعلاء شأن العرق الآريّ والاستيلاء على ممتلكات اليهود وطمس هويّتهم، فلم يعد لدى إيرين حينها الحقّ في نشر أعمالها باسمها، في حين مُنع زوجها من ممارسة عمله.
كانت الحرب وبالًا على نيمروفسكي، شأنها شأن معظم يهود أوروبا آنذاك، حيث خسرت بيتها في باريس بعد انتزاعه منها، ثم خسرت حياتها بعد ذلك. صحيح أنها لم تعش التهجير الجماعي كغيرها، إلا أنها رأت ذلك بعينيها من ملجئها في قرية مورفان، قبل أن يجري ترحيلها إلى معسكر أوشفيتس في تموز/ يوليو عام 1942، حيث توفيت عقب إصابتها بمرض التيفوس في 19 تموز/ يوليو عام 1942، قبل أن تكمل روايتها الأخيرة "متتالية فرنسيّة" (Suite Française).
ننشر هنا فصلًا من الرواية.
مرّت بضعة أيّام. ذات مساءٍ تلقّى أنطوان رسالة من إيفلين. حينما فتح المظروف، رأى أنّ الجزء العلويّ من الورقة قد تمزّق، وهذا بلا شكّ لإخفاء الترويسة التي تحملُ أيضًا اسم الفندق. قرأ ما هو الآتي:
لقد أحببتُك، لقد أحببتُك منذ بدأتَ تشعرُ بالرغبة تجاه ماريان. كان بإمكاني أن أُعجبَ بِك حينها، وكلّ شيءٍ كان ليغدو مختلفًا؛ لكنّني أردتُ أن أكون مخلصة. كنتُ شابّةً صغيرة، ولا أعرف نفسي. أمّا أنتَ فلم تعد لديك القوّة لتحبّني كما أحببتني، ولا لتحمّل القيود والكذب المهين والخوف. أردتُ أن أتركك. ولكن ليس هذا ما تريده يا حبيبي. ما تريده هو التحرّر من الرغبة بي، وأنا أريد التحرّر من كلّ رغبة، من الحياة أيضًا. لم أحبّ أحدًا في العالم سواك.
إيفلين
كانت هذه الرسالة موجّهة إلى مكتبه، كما هي العادة حيال مراسلاته الشخصيّة كافّة، ولكن في ذاك المساء جاءت ماريان بالمصادفة من أجله. وأثناء قراءته الرسالة جلست زوجته قبالته. طوى أنطوان الرسالة بلطفٍ وأخفاها في جيبه، وأبقى يديه متشابكتين فوق ركبتيه لأنّ أصابعه كانت ترتعش. ظلّ صامتًا بضع لحظاتٍ، وحين رنّ الهاتف في المكتب المجاور لمكتبه، الذي كان فارغًا لأنّ السكرتيرة قد غادرت للتو، نهض وذهب للردّ عليه. رفع السمّاعة؛ لكنّه شعر أن لا حول له ولا قوّة كي يتحدّث: خذله صوته. وضع الجهاز على الطاولة وغطّاه بيديه، وشعر للحظةٍ تحت راحتيه بهمهمةٍ طويلةٍ وعبثيّة، ومن بعدها عاد إلى ماريان.
لكنّ تلك اللحظات القليلة سمحت له بالتماسك، وبات بإمكانه الكلام.
- هذا مزعج. لقد اتّصلوا بي ليخبروني أنّ جورا سيخضعُ لعمليّةٍ جراحيّةٍ طارئة. قال مسمّيًا أحد موظّفيه بشكلٍ عشوائي. لديه أوراق مهمّة تتعلّق بصفقة شميدت، وعليه أن يعطيها لي. يجبُ أن أذهب.
- كيف؟ في هذه الساعة؟ ألا يمكنك الانتظار؟
- لا لا، يجبُ عليّ الذهاب. إنّه لا يعيش في باريس، بل مع أقارب له بالقرب من سونس. سأمضي الليلة هناك. لا تنتظريني حتّى الغد.
وقام بتوصيلها إلى المنزل.
وفي السيّارة ظلّت صامتة، وخلسةً كانت تراقبه بانتباه. هل كانت تشكّ في شيء؟ في بعض الأحيان بدا لها أنّها تسعى لإخفاء بعض الحقائق من عقلها بصورةٍ متعمّدة.
قال محدّثًا نفسه:
«آه! فلتصدّق ما تريد، لا يهمّني الآن!».
وحينما وصل إلى المنزل، وضع بعض الملابس الداخليّة داخل حقيبة سفر، وقبّل ماريان على عجلٍ وغادر. وخارج باريس تحديدًا لاحظ أنّه لا يرتدي معطفًا ولا حتّى قبّعة. كان الليل شديد البرودة.. لقد أمطرت في الليلة الفائتة؛ كان شهرُ يونيو لاذعًا ورطبًا، كما في الأيّام الأخيرة لفصل الخريف، وسرعان ما بدأت تمطرُ مجدّدًا. كان قد ترك زجاج السيّارة مفتوحًا بعض الشيء، وتساقطت قطراتٌ من المطر على خدّيه. بشكلٍ تلقائيّ مسحها بقفا يده. كان يزيد من سرعة السيارة أكثر فأكثر، لكنّ الوقت كان أسرع منه؛ غير أنّه سيصلُ في الوقت المناسب! سيصل! من المستحيل أن تكون قد ماتت! لا ينبغي السماح لهذه الفكرة بأن تتجسّد وتتبلور لديه. كان عليه أن ينظر إلى الطريق ويحصي الأشجار التي تضيئها المصابيح الأماميّة واحدةً واحدة، وأن يحصي عدد ضربات ماسحات الزجاج الأمامي، القويّة والرجراجة، التي هدّأته، دون أن يعرف سببًا لذلك، وهو يكرّر الكلمات نفسها على شكل تعويذة:
«إنّها على قيد الحياة. إنّها تتنفّس. إنها تنتظرني. إنّها على قيد الحياة».
قرابة منتصف الليل، كان عليه أن يتوقّف ليعبّئ البنزين. دخل متجرًا صغيرًا، مظلمًا ومضبّبًا، لبيع التبغ وأيقظ صاحبه، وشرب كأسًا من الكحول وغادر. كان ضوء المصابيح الأماميّة يجري أمامه، جاعلًا الأشجار على الطريق تخرجُ من العتمة الواحدةً تلو الأخرى، ومن بعدها منزلًا أبيض وجسرًا تباعًا. في بعض الأحيان بدا له أنّه توقّف عن المضيّ في طريقه قدمًا، بل إنّه يعودُ باستمرارٍ في الطريق التي سلكها منذ قليل.
فقط عندما اقترب من لوهافر، بدأ يتساءل كيف سيجد إيفلين. كانت رسالتها حاملةً طابعَ لوهافر، ولكن هل من الممكن أن تكون قد غادرتها منذ ذلك الحين؟ أين سيجدها؟ في الفندق حيث تركها؟ في مكانٍ آخر؟! لدى الآنسة تون؟ ما السبب الذي دفعها لتمزيق ترويسة رسالتها؟ هل من الممكن أنّها تحتضرُ وحدها في باريس، في حين كان يجري نحو لوهافر؟
ولكن لا، أرادت البقاء في هذه المدينة؛ حيث لا أحد يعرفها، لكي يدعها الجميعُ وشأنها؛ كي لا يتدخّل أحدٌ بها، كي تنجزَ بهدوءٍ ما لم يكن لديها شكّ في أنّها قرّرت القيام به منذ أيّام طويلة.
أخذ يحدّثُ نفسه قائلًا: «أوّل مرّةٍ خطرت لها فكرة الانتحار كانت في نيويورك. بدت كأنّها كانت تستمتعُ باللحظات الأخيرة من حياتها. كيف لم أستطع فهم ذلك؟ هذه الرغبة في الفرح، هذا الهدوء غير الإنساني في أفعالها كافّة، هذه الجرأة وهذه القسوة... في اليوم الذي تلقّيتُ فيه خبرًا سيّئًا من فرنسا، حينما كان أحد طفليّ مريضًا، كوّرت الرسالة بين يديها وهي تقول: ”لا بأس، لا تهتمّ بالأمر“. أقول إنّني لم أستطع فهمها، وإنّني لم أشعر بالريبة من أيّ شيء. إنّني أكذب. كنتُ أعرف ذلك. عرفتهُ حينما تركتها. عرفته بشكلٍ أفضل في تلك الليلة، في منزلي، حينما تمنّيتُ الموت لها. تمنّيت؟ لا بل قبلتهُ في قلبي. أنا من يستحقّ الموت، أنا وليس هي، أنا، وألف مرّةٍ أنا!».
وهمهم مناجيًا: «ساعدني يا رب!». منذ طفولته لم يتضرّع إلى الله قط. وحين أبرق برقٌ راودته رغبةٌ في التوقّف أمام رواق كنيسةٍ رآها منذ قليلٍ وهو في طريقه. أجل، رغبةٌ في العودة أدراجه، في صعود درجات الكنيسة، ومناجاة الله...! ولكن لا، هذا مستحيل؛ فعليه أن يزيد في سرعته أكثر فأكثر!
اجتاز أنطوان قضبان سكة الحديد، ولم يكد يعبرها حتّى سمع من ورائه أزيز القطار. بعد لحظاتٍ وصل إلى لوهافر.
ما يزال الليل مرخيًا ظلمته. توقّف قبالة الفندق الذي غادره قبل أسبوع. كان عليه الانتظار ليستيقظ البوّاب النهاري.
أوه لا! لم تعد الشابّة التي يبحثُ عنها موجودةً داخل الفندق. كانت قد غادرت بعد ساعاتٍ قليلةٍ من مغادرته الأسبوع الفائت. ولا أحد يعلم إلى أين ذهبت.
كان يعرف عنوان منزل الآنسة تون في ساحل دو غراس. للحظةٍ، وحينما رأى المنزل الصغير الجميل والحديقة المزهرة في ضوء المصابيح الأمامية، قال في سرّه:
«هذا مستحيل... إنّها على قيد الحياة. ستعرف الآنسة تون، هذه المرأة العجوز، كيف ترعاها».
ولكن من جديد، وفي قرارة نفسه، همست له فكرة يائسة وساخرة:
«هذه هي الخاتمة الوحيدة رغم ذلك. في حال كانت على قيد الحياة، ما الذي سيحلّ بنا؟!».
وتوقّف قبالة البوّابة المغلقة. أيّ صمتٍ هذا! خلال ثانيةٍ، ورغمًا عنه إلى حدٍّ ما، سمح لجسده المنهك بأن يتذوّق هدوء الليل.
نزل من سيّارته ودفع باب البوّابة، فانفتح ببطءٍ لأن العرائش تعيق مدار فتحه. عبَرَ بستانًا ضيّقًا؛ وجد نفسه أمام شرفةٍ مزجّجةٍ صغيرةٍ ومغلقةٍ من جوانبها كافّة. في النهاية ظهرت من وراء الزجاج امرأةٌ عجوز قصيرة وخائفة، بملابسها الليليّة ومصباحٍ مضاءٍ في يدها. عرّف بنفسه وقال إنّه يبحثُ عن إيفلين. أطلقت المرأة تعجّبًا خفيفًا وتردّدت؛ لكنّها في النهاية فتحت الباب. تجاوز أنطوان العتبة، وقال بصوتٍ خافت:
- هل هي هنا؟
- لا ليست هنا!
- ولكن ألم تكن هنا؟ ألم تسكن لديك فترة؟
- لدي؟؟ متى ذلك؟ لا أفهم ما الذي تقصده.
- ولكن مرّ على ذلك قرابة الأسبوع.
- لا، لا، لم تأتِ إلى هنا. لم أرَها. لم أكن أعرف حتّى أنّها مرّت بلوهافر.
- ألم تكتب لكِ رسالة؟
- لم يسبق لها أن كتبت لي. كانت ماريان تكتبُ لي في بعض الأحيان، وبالأمس تلقّيتُ بطاقةً من أوديل، أمّا إيفلين فلم تكتب لي على الإطلاق...
- تعرفينها جيّدًا، أليس كذلك؟
- إيفلين؟ يا إلهي...! أعرفها كطفلةٍ لي. حينما دخلتُ منزل عائلة سيغريه كانت قد وُلِدت للتو، وقد اعتنيتُ بها حتّى بلغت عامها الخامس عشر.
- أعتقدُ أنّ ثمّة مكروهًا قد حدث لها يا آنسة تون.
- هل انتحرت؟
- هل تعتقدين أنّها قادرةٌ على الانتحار؟
رفعت العجوز المصباح إلى مستوى عينيها ونظرت إلى وجه أنطوان قائلة:
- لئن كان بإمكان أيّ فتاةٍ الانتحار فهذه هي!
شدّ أنطوان يديه المرتجفتين تجاه بعضهما بعضًا.
- سأغادرُ إلى لوهافر. وداعًا.
عاد إلى سيّارته، وانطلق دون أن ينبس ببنتِ شفة. هذا المسير في الليل اتّخذ مظهر الحلم أكثر فأكثر. في بعض الأحيان كان يفقدُ وعيه وينسى ما حدث. في بعض الأحيان كان يتذكّر بأكثر درجات الوضوحِ برودةً. وهكذا وعند عودته إلى لوهافر، تذكّر أنّه تناول العشاء في باريس عدّة مرّاتٍ مع النائب رُنيه ألكان، المنحدر من مدينة لوهافر. وقد استخدم اسمه عندما قدّم نفسه في مركز الشرطة.
كان مفوّض الشرطة ما يزال شابًّا، كما أنّه شخصٌ مهذّب؛ فقد استقبله على الفور، وبذل قصارى جهده لتهدئة روعه، ولم يتأخّر في الرجوع إلى الملفّات الخاصّة بحالات الاختفاء. لم يتمّ الإبلاغ عن أيّ حالة انتحار، ولم يتمّ الإبلاغ عن أيّ حادثٍ يتعلّق بإيفلين. عندئذٍ قال وهو ينظرُ إلى وجه أنطوان المهشّمِ من التعب:
- كما ترى يا سيّدي، ليس هناك أيّ سببٍ يسمحُ لك باعتقاد أنّ قريبتك قد ماتت. في حال لديك الرغبة، يمكنني أن أعرّفك على شخصٍ يرافقك إلى الفنادق والمنازل الفندقيّة في المدينة. من الممكن أن يتمّ إجراء التحقيق بأقصى قدرٍ من السريّة. في حال لم تجد هذه الشابّة فهذا يعني أنّها غادرت لوهافر، وفي هذه الحالة سنجري بحثًا في مكانٍ آخر، وسنضع أنفسنا على اتّصالٍ مع باريس؛ بيد أنّ هذه الخطوات ستكون مرهقةً لك يا سيّدي. وفي حال كنتَ تفضّلُ الانتظار، فسأرسلُ رجلًا لإجراء عمليّات البحث هذه بمفرده، وسيبلّغك بمجرّد اكتشاف بعض الأدلّة.
غير أنّ أنطوان رفض... طالما امتلك وهم التفاعل، كان من الممكن له أن يبدو هادئًا، ويتحدث بشكل عقلاني، إلّا أنّ الصمت والجمود كانا يفوقان قوّته. دلّوه على الرجل الذي سيرافقه وغادر.
ستمرّ سنوات، وستتلاشى ذكرى إيفلين نفسها، لكنّه طوال حياته سيتذكّر تلك الأبواب المغلقة، تلك الشوارع حيث يتساقط المطر، تلك الوجوه الفضوليّة أو التهكّميّة، هذه الشكليّات، هذا الانتظار القاتل خلال تصفح يدٍ لامباليةٍ للسجلّات. لا شيء، دائمًا لا شيء، ولكن لم يعد هناك أمل. في الخارج كانت الأشجار الخضراء تنقّطُ ماءً وتنحني تحت المطر والرياح. في بعض الأحيان أدّى القلق المفرط والإرهاق إلى إضعاف أفكار أنطوان إلى درجة أنّه وجد نفسه يفكر:
«لِمَ أنا هنا؟!»
ذهبا إلى الفنادق الكبرى في المدينة، ثمّ إلى الفنادق الأكثر تواضعًا، ومن بعدها إلى المنازل المظلمة في الميناء. أثناء قيادته سيّارته، كان أنطوان يقوم بالإيماءات اللازمة للقيادة تلقائيًّا؛ يضغط على المكابح، ويزيد من السرعة عند الضرورة؛ حتّى إنّه تمكّن من تبادل بضع كلماتٍ مع الرجل الجالس بجانبه؛ في بعض الأحيان كان يضع سيجارةً في فمه، يرميها بعد إشعالها بالكاد، ويمسحُ النافذة المبلّلة بظهر يده: كانت ممسحة الزجاج الأماميّ مكسورة. لقد أسِف على هذا النبض السريع والإيقاعي في الظل.
كان الفجر الباهت قد طلع. وكان المطر يتساقط. شارع، فندق، القفص الزجاجيّ لموظّف الاستقبال في الفندق، درجٌ مغطّى بسجّادة، وجوهٌ غير مبالية، حقائب على الأرض يدفعها بقدمه. ومن بعدها يظهرُ منزلٌ آخر بالكاد يختلف عن ذاك الذي غادره. يسيرُ على طول ممرٍّ مشابهٍ لذاك الذي سار به دون جدوى. يستنشقُ رائحة الجدران المدهونة المتطابقة في كلّ فندق. لا شيء. كانت المصابيح مضاءةً فوق الأبواب. نظر إلى هذه الأبواب واعتقد أنّه حلّ محل أيّ من هؤلاء المسافرين المجهولين. نعم، كل حياتهم، كل بؤس الماضي والحاضر والمستقبل الذي كان مصير كل منهم؛ كلّ هذا بدا أفضل ممّا شعر به في تلك اللحظة.
قاما بزيارة الشوارع الصغيرة المحيطة بالميناء. وقال أنطوان عند رؤيته هذه الأبواب المنخفضة، هذه النوافذ الزجاجيّة السوداء:
- لا لا، هذا مستحيل. لا يمكنها المجيء إلى هنا...
- لا أحد يعرف. قال الرجل الذي رافقه بهدوء. لا أحد يمكنه أن يعرف يا سيّدي...
ولكن لا أثر، لا أثر لشيءٍ دائمًا.
في أحد المنازل قيل لهم إنّ لديهم امرأة مريضة منذ أمس. دخلا إلى غرفةٍ كانت ترقدُ بداخلها امرأةٌ مجهولة؛ التفتت نحوهما بوجهٍ متبلّدٍ ملتهبٍ بفعل الحمّى أو الثمالة؛ وكانت يداها الخاملتان مسترخيتين فوق اللحاف. أغلقا الباب وغادرا، ومن ثمّ ذهبا إلى مكانٍ آخر. كانت السماء مظلمةً إلى درجة أنّهما، وفي طريقهما هذه، أضاءا تلك المصابيح المحميّة بصحنٍ من البورسلان التي تتدلّى من طرف خيطٍ، والتي تتشابه جميعها في الفنادق المتواضعة. عندها يسقطُ بريقٌ محمرٌّ ومضطربٌ من السقف فوق وجوهٍ لا مباليةٍ أو نائمة. في بعض الأحيان كان أنطوان يضغط يديه بقوّةٍ على وجهه، وخلال ثانيةٍ يشعرُ بالراحة عبر هذه الحركة. ومن ثمّ يجدُ نفسه بالخارج تحت المطر. كان يقول لنفسه: «فقط لو يتوقّف هذا المطر...».
غير أنّ المطر ظلّ يتساقطُ دون توقّف، وهذا الصوت الذي لم يكن يسمعه في البداية، والذي أدركه الآن جيّدًا، كان يدفعه نحو الجنون. كان المطر يلفحُ سقف السيّارة وزجاج نوافذها، والمياه تقفز تحت العجلات.
في النهاية، وبعد أن انتهيا من جميع فنادق لوهافر، قال الشرطي:
- في ضواحي المدينة يوجدُ منزلٌ انتحر فيه شابّان قبل عامين. وهكذا، في بعض الأحيان، ثمّة منازل تجتذب...
وقد قال ذلك، ودون أن ينتهي من كلامه، حاول الإشارة إلى فكرته بتلويحةٍ من يديه.
وانطلقا مرّةً أخرى نحو ساحل دو غراس حيث أمضى أنطوان بضع ساعاتٍ بمفرده. فيما ظلّ الشرطيّ صامتًا وطاويًا ذراعيه. كان يتمتّع بهيئةٍ قويّة وصادقةٍ ولطيفة. وضع أنطوان بعض المال في يده، وهو ما قبله بشكلٍ محرج. كان أنطوان يشعرُ بالحاجة إلى الراحة والتضامن الإنساني؛ حيث إنّ وجود هذا الرجل، بعيدًا عن كونه مصدر إحراجٍ له، بدا بمنزلة المساعدة له. في نهاية المطاف توقّفا قبالة منزلٍ محاطٍ بحديقة.
- ابق في سيّارتك يا سيّدي؛ فأنت في غاية التعب. قال الشرطي. سآتي إليك في حال لزم الأمر.
انتظر أنطوان. على بعد خطواتٍ قليلةٍ يوجدُ مصبّ النهر. فكّر في قيادة سيّارته على جانب الطريق، دفعها قليلًا، التهشّمِ بداخلها والغرق في المياه، وإلغاء الذاكرة والحبّ والندم إلى الأبد...
قال في سرّه بشيءٍ من اليأس: «لكنّني لا أستطيع. ماريان... الصغيران... لأنّ الحبّ والخيانة في النهاية لا علاقة لهما بحقيقة أنّ عليّ إطعامهم، وأنّني تحمّلتُ هذا العبء الرهيب المتمثّل في الأسرة، وأنّني لا أستطيع تركهم في الشارع».
ومضى الوقت.
«آه! إنّها هنا... لقد ماتت».
ثمّ ظهر الشرطيّ مرّةً أخرى. فتح الباب وقال بتردّد:
- الشابّة هنا يا سيّدي... ولكن...
- ماتت؟ همهم أنطوان.
- يا للأسف! لقد انتحرت خلال الليل يا سيّدي. انتحرت باستخدام الفيرونال . كانت هنا منذ بضعة أيّام. بالأمس قالت إنّها لا تريد لأحدٍ أن يزعجها، وإنّها لن تتناول العشاء. لا أحد من الموجودين قد شكّ في شيء؛ لكنّني قمتُ بفتح الباب و...
- ماتت؟ كرّر أنطوان.
- أجل يا سيّدي.
- هل بإمكاني رؤيتها؟ تلعثم وقد شعر بفمه يرتجف ولا يخرجُ منه سوى مقاطع مشوّهة.
ودخل أنطوان غرفةً ساحرةً تتدلّى منها ستائر من الكريتون الوردي، وبداخلها سريرٌ نحاسيٌّ ضيّقٌ مدفوعٌ قبالة النافذة. كانت إيفلين مستلقيةً فوق هذا السرير، وفي البداية، وحينما كان وجهها مخبًّأ وراء الوسادة، لم يرَ سوى شعرها الأشعث. أمسكَ بشعرها ورفعه: كان دافئًا وناعمًا للغاية، مفعماً بالحياة إلى درجة أن راودت أنطوان لحظةٌ من الأمل المجنون؛ غير أن الجلد كان باردًا بالفعل. أدار وجه إيفلين نحوه، تأمّلهُ بشعورٍ من الريبة والرعب، ومن ثمّ تركه يرجعُ إلى الوراء، ووضع يده على عينيه، وأطلق ساقيه للريح.