عرّفه البعض بأنه وضع وجه النكتة على جسد الحقيقة، فيما وصفه آخرون بأنه باختصار وصف ساخر لحقيقة مرة. هكذا إذا يبدو فن الكاريكاتير بركنيه: السخرية والحقيقة، أصيلا في مجتمعاتنا العربية التي باتت السخرية الملاذ الأول لأبنائها لمداراة واقع مر باتوا يعيشونه، ووسيلة النجاة التي يمتلكونها ضد الجنون الذي بات يجتاح بلدانهم.
رغم الريادة المبكّرة التي حققها فنانو الكاريكاتير في الأردن، إلا أن السنوات الماضية شهدت تدهورًا لقيمة هذا الفنّ ضمن بيئة مقيّدة لحرية التعبير والإبداع
أما في الأردن، البلد الذي احتضن بعض أوائل رسامي هذا الفن في الوطن العربي وصدّر للعالم بعض أفضل رواده، فأضحى فن الكاريكاتير في كثير من الحالات غريبًان يتهم تارة ببهوت السخرية وتارة أخرى بالارتماء في أحضان السلطات بعد تقليم البعد السياسي فيها. فكيف أصبح الأردن طاردا لفن الكاريكاتير رغم غنى المشهد الأردني المليء بالمفارقات؟
رقابة تشمل الجميع وتشلّ الجميع
شأنه شأن باقي الفنون الصحفية، يرتبط أداء فن الكاريكاتير بمدى قوة الصحافة، التي تواجه بدورها في الأردن مطبات كثيرة تبدأ بسقف الحريات الآخذ بالانخفاض ولا تنتهي عند الرقابة الذاتية وضعف التمويل.
صنف الأردن حسب تقرير مراسلون بلا حدود لعام 2021 لحرية الصحافة في المرتبة التاسعة والعشرين بعد المئة من بين مئة وثمانين دولة. التقرير عزا المرتبة المتراجعة للبلاد إلى الرقابة الذاتية التي يمارسها الصحفيون والمؤسسات الصحفية، بالإضافة إلى "أن الصحفيين يخضعون لرقابة مكثفة من قبل جهاز المخابرات ويجب عليهم أن يكونوا تابعين لرابطة الصحفيين الأردنيين التي تسيطر عليها الدولة" حسب وصف التقرير.
وفي تقرير لهيومان رايتس ووتش صدر عام 2020، قال نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة، مايكل بيج، إن "الاستغلال الخبيث للأردن للتدابير التعسفية مثل أوامر منع النشر والاعتقالات لإسكات الصحفيين ليس سوى أحدث حلقة في سلسلة قيود مفروضة على حرية الصحافة في البلاد".
في هذا السياق يقول رسام الكاريكاتير والرئيس السابق لرابطة رسامي الكاريكاتير، عماد حجاج، إن كون فن الكاريكاتير ارتبط في الأردن بالصحافة الورقية بالتحديد جعله عرضة للمشاكل التي واجهتها الصحف والجرائد من رقابة وانخفاض لسقف المسموح، الأمر الذي دفع رسامي الكاريكاتير إلى وسائل إعلام غير أردنية وجدوا فيها مساحة أكبر من الحريات، "خاصة في ظل وجود العديد من القوانين المقيدة في البلاد مثل قانون الجرائم الإلكترونية".
يضيف حجاج، الذي كان قد اعتقل قبل عامين على خلفية نشره لعمل له ينتقد فيه اتفاقية التطبيع الإماراتية مع الاحتلال، إنه "لا كرامة لنبي في قومه... إذ إن وسائل الإعلام المحلية تدفن الفنانين وأعمالهم" وتستثني الكاريكاتير من أولوياتها كونه يعتبر فنًا ناقدًا يسبب الصداع!
رئيس رابطة رسامي الكاريكاتير التي تضم اليوم خمسة وعشرين عضوا، ناصر الجعفري، يقول إن مشكلة هذا الفن في الأردن هي مشكلة مركبة تمتد على عدة أصعدة، إذ إن الدولة لا تعنى بدعمه لكونه فنا ناقدا، ومن ثم فإن وسائل الإعلام أيضا، الخاضعة بطبيعة الحال لسطوة الرقابة، أصبحت تنأى بنفسها عن دعم فن الكاريكاتير أو إعطائه منابر ومساحات حقيقية.
رقابة مشددة في عصر تحرر افتراضي
في عام 2011، انطلقت ثورات الربيع العربي ليبدأ معها الشباب المتعطش للحرية باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي على نحو مختلف عما كان مألوفا، فأصبحت منصات التواصل الاجتماعي بمثابة ساحات موازية لشوارع العواصم العربية التي كانت تملأها حشود المتظاهرين.
رسامو الكاريكاتير بدورهم انضموا إلى الأفواج المقبلة على منصات التواصل ليجدوا فيها جمهورا أكبر ورقابة أقل، فدخل فن الكاريكاتير آنذاك فترة ذهبية ملأت فيه رسومات الكاريكاتير وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة، بل ووصلت إلى جدران الأماكن العامة وطبعت في منشورات في العديد من العواصم العربية.
في الأردن، لم يكن الوضع مختلفا، إذ شهدت الصحافة الورقية والإلكترونية فورة في الرسوم السياسية المنشورة، في حين ظهرت على وسائل الإعلام المرئية أشكال جديدة من برامج السخرية السياسية.
الربيع العربي لم يترك أثره في الأردن على كم المنشور في مجال السخرية السياسية فحسب، بل أثر أيضا على محتوى الكاريكاتير. إذ تشير دراسة تحليلية نشرت عام 2016 إلى أن أعمال الكاريكاتير التي نشرت في الأردن بعد ثورات الربيع العربي أصبحت تحتفل بمضامين من قبيل التحرر والوعي والإنجاز والانتصار والحرية والكرامة والديمقراطية بعد أن كانت قبل الربيع العربي تظهر العامة على أنهم جاهلون وطماعون ومضطهدون.
يقول الجعفري إن وسائل التواصل الاجتماعي شكلت بديلا مهما عن الصحافة المطبوعة، بعد أن كان مجرد وصول رسام الكاريكاتير إلى إحدى الصحف لعرض رسوماته عليها يحتاج إلى جهود مضاعفة، لكن من ناحية أخرى أدت سهولة النشر على وسائل التواصل الاجتماعي إلى عدم احتراف رسامي الكاريكاتير.
يضيف الجعفري أيضا أن هاجس رسامي الكاريكاتير كان طوال العقود الماضية يتمثل في رقابة السلطة، إلا أن الأمر اختلف بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، "فاليوم أنا أتردد كثيرا في الكثير من التفاصيل في الأعمال التي أرسمها لأتجنب أن أصبح محل الاتهام خاصة مع الانفلات الحاصل في منصات التواصل الاجتماعي".
في عام 2020، تعرض الفنان الحاصل على جوائز عالمية، رأفت الخطيب، لحملة تخوين على وسائل التواصل الاجتماعي على خلفية نشره رسما كاريكاتوريا يشبه رئيس الوزراء آنذاك، عمر الرزاز، بالشرطي الامريكي الذي تسبب بمقتل الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد. العمل الكاريكاتوري نشره الخطيب بعيد الإعلان عن أمر الدفاع رقم 6 الذي ضيق على العمال والموظفين ضمن إجراءات الحكومة للتعامل مع جائحة كورونا، واتهم بانحيازه إلى أرباب العمل.
اقرأ/ي أيضًا: الفنّان الأردني رأفت الخطيب.. الكاريكاتير فن استثمار في المفارقة
يقول الخطيب إنه بعد حملة التخوين قرر عدم نشر الكثير من أعماله إلى أن يتأكد من أنه أصبح في وضع آمن، إذ إنه لا يريد أن يكون "الشهيد التالي بعد الراحل ناهض حتر"!
من هنا إذن أصدرت الدولة قانون الجرائم الإلكتروني المثير للجدل والذي تصل العقوبات بالاستناد إليه إلى الأشغال الشاقة المؤبدة وإلى غرامات تصل إلى 1500 دينار أردني.
منظمة آكسس ناو وصفت القانون بأنه يقدم تعريفا فضفاضا وغامضا لخطاب الكراهية يمكن أن يؤدي إلى الخلط بين خطاب الكراهية وانتقاد الشخصيات العامة، وهو ما استخدم في العديد من الحالات لاستهداف معارضي الحكومة. القانون أيضا أطلق يد الدولة في الرقابة على تطبيقات الهواتف الذكية وسمح لها بخرق الحياة الخاصة للمستخدمين، وفقا لآكسس ناو.
الجعفري يصف القانون بأنه كان مؤذيا أكثر مما كان مفيدا، فالقانون الذي كانت الغاية المفترضة منه هي حماية حرية التعبير، دفع رسامي الكاريكاتير، ضمن غيرهم من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، إلى الخشية من الملاحقة القانونية جراء تحسس أحدهم ربما من عمل فني ما.
أصدرت الدولة قانون الجرائم الإلكتروني المثير للجدل والذي تصل العقوبات بالاستناد إليه إلى الأشغال الشاقة المؤبدة وإلى غرامات تصل إلى 1500 دينار أردني
يقول الجعفري: "اليوم، أنا أحسب ألف حساب قبل أن أرسم أي عمل كنت أرسمه سابقا من دون تردد في الصحف المطبوعة، وهي التي كانت تعاني من الرقابة وكان فيها رئيس تحرير!... لا شك أن هنالك شعورا بالإحباط، فبعد سنوات طويلة من الرسم باتجاه قيم إيجابية نجد أنفسنا اليوم بحال ليس بأفضل من السابق."
اقرأ/ي أيضًا:
الفنّان الأردني رأفت الخطيب.. الكاريكاتير فن استثمار في المفارقة
كارلوس لطّوف.. فنان حرافيش الثورة بلا منازع