"إنّها بمثابة جرح، فهي مكان للجميع، دمّر فيه الإنسان أخاه الإنسان". لا يبدو أنّ ثمّة ما يُعبّر عن رؤية المصوّر التشيكيّ جوزيف كوديلكا لمدينة بيروت وما مرّت به في سنوات الحرب الأهلية، أكثر من هذا النص. فما يحمله في جوهره، يتعدّى كونه محاولة لاختزال ما حدث في العاصمة اللبنانية في سبعينيات وحتّى تسعينات القرن الماضي، أي حين تحوّلت بفعل الحرب إلى حلبة واسعة للموت المتنوّع وعمليات الخطف والاقتتال الطائفي، وباتت مكانًا يُفرَّغ فيه الإنسان من إنسانيته، بل ذهب جوزيف كوديلكا أبعد من ذلك، إذ حاول، بقصد منه أو دون قصد، النفاذ إلى جوهر تلك الحرب، والتأكيد على أنّ ما دُمّر حينها هو "الإنسان" قبل أي شيء آخر.
يعد ما التقطته عدسة جوزف كوديلكا شهادة متجدّدة على التصدّعات والاضطرابات التي يصنعها الإنسان نفسه لنفسه
بعد سنة على انتهاء الحرب الأهلية ووقف إطلاق النار، وصل جوزيف كوديلكا إلى مدينة بيروت لأوّل مرّة برفقة خمسة مصوِّرين آخرين بقصد تصوير وسط المدينة التجاري المدمّر. كان الهدف من ذلك آنذاك حفظ ذاكرة الأمكنة التي طالتها الحرب وأحالتها خرابًا، قبل أن تبدأ ورشات إعادة الإعمار بمحو آثارها وتغيير معالم الوسط التجاري للمدينة. الآن، وبعد مرور ما يزيد عن خمسة وعشرين عامًا على زيارته الأولى، يعود جوزيف كوديلكا إلى بيروت للمرّة الثانية، ولكن هذه المرّة من بوابة معرضه "الجدار/ بيروت" الذي تستضيفه دار النمر للثقافة والفن، بالتعاون مع وكالة "ماغنوم". المعرض الذي يضمّ صورًا التقطها المصوّر التشيكيّ في كلّ من فلسطين المحتلّة بين عاميّ 2008 و2012، وبيروت عام 1991، هو المعرض الأوّل له في لبنان، ومن المقرّر أن يستمر حتّى الـ 22 من تشرين الثاني/ نوفمبر.
اقرأ/ي أيضًا: تشارلز سيميك... فوتوغرافيا الحروب
يُعيدنا المعرض إلى بيروت بصورتها المأساوية الداكنة. ولا يحضر اللونان الأبيض والأسود في الصورة كمجرّد ألوان فقط، إنّما كنمط حياة عاش سكّان المدينة المنكوبة آنذاك وفقًا له. وإن تأملنا معالمها المدمّرة التي أحاطت بها عدسة جوزيف كوديلكا من جوانب مختلفة، سوف ننتبه إلى أنّ المدينة التي تظهر هادئةً في الصور الملتقطة، تبدو كأنّها تستريح أخيرًا مما أثقلها طيلة خمسة عشر عامًا من حروب وارتدادات وزلازل. هذا الهدوء الصريح نوعًا ما، جاء محمّلًا بالحكايات الموزّعة على أدقّ التفاصيل التي تظهر في صور جوزيف كوديلكا، ما حوّلها إلى أيقوناتٍ تدفع بالمتلقّي إلى الإنصات إلى الحكايات غير المرئية فيها، والحوارات التي تدور بين أشيائها.
تتخطى فوتوغرافيا جوزف كوديلكا ذاتها لتكون شهادة على تصدّعات الروابط البشرية
الهدوء المباغت إذًا هو الوصف المناسب لأيقونات المصوّر التشيكيّ التي تبدو أقرب ما تكون إلى حكايات لا تنتهي، أو ليس من المقدر لها أن تنتهي أساسًا. عوضًا عن أنّها لا تبتعد، بشكلٍ أو بآخر، عن آلام البشر وأحلامهم وانكساراتهم المتتالية. وبالتالي، لا تخلو تلك الصور، الملتقطة في بيروت وفلسطين معًا، من الحضور الإنسانيّ إطلاقًا. حيث أنّ هذا الحضور نفسه نجده يتكاثف أكثر فأكثر داخل المشاعر التي تحملها الصور، مشاعر المرارة والهزيمة والخيبة والانكسار، وذلك على الرغم من غياب الحضور البشريّ المادّي في غالبية صور المجموعتين "الجدار" و"بيروت". ويمكن القول هنا إنّ ما التقطته عدسة جوزيف كوديلكا يعدُّ شهادة متجدّدة على التصدّعات والاضطرابات التي يصنعها الإنسان نفسه لنفسه: الحواجز الإسمنتية الضخمة التي تشير إلى حدود مناطق الاشتباك بين مجموعة مسلّحة وأخرى. ناهيك عن أنّها أيضًا إشارة إلى الفصل بين مجموعة بشرية وأخرى وفقًا للطائفة أو الانتماء السياسيّ، وذلك داخل وطن واحد من المفترض أن يكون أرضًا لجميع أبنائه. منازل ومبان مدمّرة، وأخرى تخترقها آلاف الثقوب. جدار الفصل العنصري الذي يحول بين الشعب الفلسطينيّ وأرضه الأولى. ونوافذ مهشمّة تطلُّ على خراب وفراغ ومساحاتٍ شاسعة وخالية، غالبيتها، من البشر.
يمكن إعادة سبب فراغ صور جوزيف كوديلكا من البشر إلى رغبته في إزاحة البطولة في صوره إلى ما يصنعه البشر في مسعاهم اليوميّ وحروبهم وصراعاتهم المستمرّة. ذلك أنّها تتخطى كونها مجرّد صور لتكون شهادة على تصدّعات الروابط البشرية. وبالتالي، ما يسعى إليه جوزيف كوديلكا في صوره هذه هو أن نرى ما يصنعه الإنسان بأرضه ومكانه وأبناء جلدته. وأيضًا، ما يخلّفه من آثار وندوبٍ لا تُمحى إلّا ماديًا فقط.
اقرأ/ي أيضًا: