ليس جديدًا القول إن هناك فوضى خطابات سياسية الآن، ووجود عدة خطابات يعدّ من المميزات وذلك تفضيلًا على كوارث وتبعات سيادة خطاب واحد بعينه، إلا أن المتابع لتعددية هذه الخطابات لا بد وأن يتوقف قليلًا ليقوم بما أصبح معروفًا أكاديميًا باسم "تحليل الخطاب".
المتابع للفيضان الإعلامي المصري، لا يمكنه إغفال سيطرة الدولة ومناصريها على معظمه
أما عن الطرف الذي يمكن أن يُسمّى ما يصدر عنه باسم خطاب فقد يكون حزبًا أو تنظيمًا أو كتلة أو مجموعة لها مساحة في خريطة الحياة السياسية المصرية، ولا بد أن يكون لهذا الطرف وسائل تعبير تقدّم وتراكم من خلالها هذا الخطاب، وقد يكون ذلك جريدة أو توصيات مؤتمر عام أو جمعية عمومية أو بيانات تعبّر عن موقف أو سلسلة من المطبوعات، وهي بكلّها وسائل لابد وأن تحقّق نوعًا من التراكم على مدار زمني متفاعل مع الأحداث ليتسنّى في النهاية محاولة تحليل الخطاب الذي تحمله والرؤية التي ترسخها أو الهدف الذي تسعى إليه عبر سوق الحجج والمنطق التي يثبت صحّتها وملاءمتها للسياق الحاضر.
الآن أصبح الوصول إلى مفردات الخطابات السياسية في مصر ممكنًا لكل من يريد ذلك، فالإنترنت قد اختصر المسافات حيث أصبح لكل جماعة موقعًا ومساحة على الفضاء السيبري وهناك أخرى تصدر صحفًا حتى أصبحت وفرة المعروض عند بائعي الجرائد تفوق قدرة الجمهور المستهدف للقراءة، فذاك يعبّر عن التوجه الليبرالي، والآخر يعبّر عن اليميني، والثالث يعبّر عن اليساري، والرابع يحمل التوجه الديني.. وهكذا إلى مالا نهاية تمتدّ الوسائل إلى الإعلام المحلي. المتابع لذلك الفيضان الإعلامي لا يمكنه إغفال سيطرة الدولة ومناصريها على معظمه، سواء كان ذلك في انتقاء الأخبار أو التصريحات أو المتحدّثين بشكل عام.
إذا كانت التعددية من الأهداف التي تسعى الدول المحترمة لتحقيقها بشتى الوسائل ومؤشر يقدّم بصيص أمل في إرساء الديمقراطية فما الذي يحوّلها إذن إلى فوضى عارمة تفسّر الماء بعد الجهد بالماء؟ هناك سمات عامة تشترك فيها كلّ تلك الخطابات وهو ما يعجّل بتحويل التعددية المحمودة إلى فوضى سلبية وليست خلّاقة، وهي سمات تنبع في الأغلب الأعمّ من الشعور بالعجز أو غياب المنطق أو محاولة الترهيب في معظم الأحوال أو اليأس التام من تحقيق الهدف المنشود من قيام الجماعة.
السمة الأولى: وهي الأكثر شيوعًا والمتكررة دائمًا هي ادعاء امتلاك الحقيقة، وألف لام التعريف تناقض مباشرة فكرة التعددية، وامتلاك الحقيقة هنا يكون مدعمومًا بأخبار تفيد أن صاحب الخطاب يعي جيدًا "مصلحة الوطن" ويفهم ما استعصى على الآخر فهمه، فيقوم بتدعيم ملكيته للحقيقة بكل الوسائل غير المشروعة المؤكدة للاستبداد. على سبيل المثال، هناك تلك الوسيلة المعروفة في الانتخابات من إقصاء الآخر بجميع الوسائل المتاحة مع التوحشّ في قتل هذا الآخر معنويًا واجتماعيًا. وهنا تنشأ المفارقة، فامتلاك الحقيقة لا يتحقّق إلا بجميع الوسائل المنافية للحقيقة.
نزعة الوصاية الأبوية المطلقة على أجندة مصلحة الوطن متأصّلة في السياسة المصرية
أما الثانية، ويبدو أنها متأصّلة في السياسة المصرية، فهي تلك النزعة إلى الوصاية الأبوية المطلقة على أجندة مصلحة الوطن، فيظهر الاتهام لكل من هو معارض للسيسي على أساس أنه "إخوان"، أما المواطنون الذين يقصف عمرهم من أثر التعذيب في أقسام الشرطة والسجون فليسوا سوى حالات فردية لا يصلح إلقاء الضوء عليها لأن هناك الأهمّ، وهو محاربة الإرهاب بالتأكيد. والأطباء الصغار الذين "يطفحون الكوتة" في مستشفيات خربة ويتم الاعتداء عليهم من قبل أفراد الشرطة، فليس من الأمثل الانتباه إلى أوضاعهم المتردية، وأما المياة الملوّثة والقمح المسرطن ومصانع الأسمنت والكيماويات السامة وتفشّي فيروس سي في أجساد المصريين، فليس سوى قضية يلتقطها المعارضون للنظام لترويج الشائعات، وتضييع الجهد العظيم الذي تقوم به الدولة وأزلامها في اختراع أجهزة فضائحية لعلاج المصرين، أو استكمال مسيرة بيع كل شيء مصري للمستثمرين الأجانب.
في كلّ مرة ذهبت فيها روح بريئة بسبب إهمال المسؤولين، أو تواطؤهم، كنت أتساءل ما الذي يمكن اعتباره أهم من الحفاظ على الحياة في هذه الحياة وفي هذا البلد؟ ولماذا يفترض الخطاب، أي خطاب سياسي، أنني المواطن سيهتمّ به إذا لم يهتمّ بحياة المواطن والمواطنة؟ ولماذا الافتراض من الأساس أن "مصلحة الوطن" هي من اختصاص خبراء الدولة وعسكرها فقط؟
ومن هنا تظهر السمة الثالثة في فوضى الخطابات السياسية، وهي تلك الخاصة بتشويه الطرف الآخر، وهي سمة تغلق أي طريق يمكنه فتح الحوار، مما يجعلني أشك أحيانًا أن الأطراف المعنية بتأسيس الخطابات تريد إجراء أي حوار. والتشويه وسائله كثيرة لا تنتهي بالاتهام بالعمالة والخيانة والانتماء لجهات مشبوهة أو الخوض في أعراض المعارضين، ويعتمد ذلك التكتيك الآن بشكل أساسي على الصحافة ووسائل الإعلام المرئية والإلكترونية، إلى جانب استحداثه لوسائل مساعدة تتنوّع بين التجاوز اللفظي، الذي يعمد إلى الاستهزاء والاستخفاف أو اللعب على وتر المِزاج الشعبي كما في قضية إسلام البحيري.
لا عجب إذن أن تمتلئ المحاكم في الآونة الأخيرة بقضايا السبّ والقذف والتشويه، أو أن يقضي قطاع عَرَضي طويل من "المواطنين الشرفاء" أعمارهم في متابعة أخبار وتحليلات كاذبة، تأتيهم من أشخاص يبيعون وهم اليقين التام والوطنية الكاملة. في هذه الفوضي الهائلة يتحوّل كل طرف إلى متهم يحاول إثبات براءته، ساعيًا إلى تأكيد حرصه على "مصلحة الوطن"، أليست هذه فوضى عبثية بحق؟
اقرأ/ي أيضًا: