منذ المشاهد الأولى في فيلم "أمهات متوازيات"، يؤسس بدرو ألمودوفار، المخرج الإسباني الشهير، لحكايتين متوازيتين: الأولى هي البحث عن رفاة ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية المدفونين في حفر جماعية؛ والثانية البحث عن الأمومة، أو بالأدق عن ميلاد جديد. بطلا الأولى يانيس (بينيلوبي كروث)، المصورة الفوتوغرافية، التي تسعى لتحقيق حلم العائلة بالعثور على رفاة أبي جدها، وأرتورو (إسرائيل أليخالدي) الخبير الشرعي وأحد المسؤولين عن مشروع استعادة الذاكرة التاريخية لضحايا فرانكو. وبطلا الثانية يانيس وآنا (ميلينا سميت) التي تتعرّف عليها في مستشفى أثناء التجهيز للولادة. بطريقة ما، الدراما مدفوعة برغبة يانيس الحالية في استعادة ماضي عائلتها من ناحية، وتكوين عائلة مستقبلية من ناحية أخرى. ولا يمكن تحقيق الأولى والثانية إلا من خلال أرتورو الذي، لظروف عائلية، لا يرحب بالجنين، ثم يشكك في بنوته.
في "أمهات متوازيات"، يطرح ألمودوفار، لأول مرة وبشكل مباشر، سؤال السياسة والتاريخ، بعد أن تجنب هذا السؤال طوال مسيرته الممتدة من الثمانينيات إلى الآن
يطرح ألمودوفار، لأول مرة وبشكل مباشر، سؤال السياسة والتاريخ، بعد أن تجنب هذا السؤال طوال مسيرته الممتدة من الثمانينيات إلى الآن، إذ اختار المخرج الإسباني، في أعمال وضعته في مخرجي الصف الأول عالميًا، أن تكون الصورة التي تظهر فيها الكادرات كلوحات فنية، في جانب، والدراما الإنسانية القائمة على البعد النفسي، في جانب ثانٍ، والهم الجندري، في جانب ثالث، كعناصر رئيسية لأفلامه، بدون أن يتخلى عن أسئلة كبرى مثل العزلة والإخفاق والنسيان، وألم الإنسان المعاصر، متكئًا على إيقاع شعري وأفق يشبه القصيدة. هذا الهم الجمالي المجسد لتصور الفن والمسلط على الفرد، وليس الجماعة، يمكن أن يكون، بتلخيص مخل، مشروعه السينمائي.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "صمت الآخرين".. صرخة في وجه الحرب والاستبداد
لقد صرّح ألمودوفار في العقد الأول من مسيرته لـ باريس ماتش، عام1989، بأن: "ولا حتى أسمح بأن تتسرب ذكرى الفرانكوية من خلال أفلامي"، إنه موقف راديكالي يتبنى قتل الآخر عبر تجاهله، إذ بالنسيان التام للفرانكوية سيُمحى أثرها. موقف أكثر عاطفية مما يحتمله تاريخ بلد كان أسيرًا لحرب أهلية امتدت ثلاث سنوات، تلتها دكتاتورية عسكرية امتدت ما يزيد عن ثلث قرن. لذلك، فـ"أمهات متوازيات" مراجعة حقيقية لمقولته السابقة، إدراك متأخر نسبيًا لطبيعة الجروح التي لا تندمل على صديد، وبالتالي، تغير جذري في تصوره الجمالي للفن.
ورغم أن ألمودوفار لم ينفذ مقولته حرفيًا، إذ ثمة إشارات متعددة لنقد الفرانكوية في العديد من أعماله، كما نرى في شخصية الشرطي المغتصب في فيلم "بيبي، لوثيا وبومي"، وتناول مسألة المنفيين الجمهوريين في "كعوب بعيدة" ((Tacones lejanos وانطلاق "لحم مرتجف" (Carne trémula) من إعلان حالة الطوارئ عام 1970، إلا أنها كانت محض إشارات لا تؤسس لدراما سياسية، حتى لو نفى ألمودوفار نفسه، في تصريح آخر ردًا على انتقادات له، بأن السياسة في صلب عمله الفني.
تتأسس "أمهات متوازيات"، في حكايتها الأولى، على عبارة قالتها يانيس "المرأة الناضجة" لـ آنا "الشابة"، هي بالتأكيد فلسفة ألمودوفار في مرحلته الجديدة: "ما لم نجمع رفاة ضحايانا ستبقى الحرب قائمة". من هنا تأتي أهمية مشروع الذاكرة التاريخية، الذي يرى أن تصفية حسابات الماضي هي الوسيلة الوحيدة للبدء من جديد، وهو مشروع تبنته إسبانيا منذ بدايات القرن، أحد محاوره العثور على رفاة 100 ألف ضحية للفرانكوية في الفترة ما بين 1936 إلى 39، دفنوا جميعًا في مقابر جماعية موزعة على القرى لكونهم يساريين أو مناهضين للجنرال فرانكو، وأبرز نموذج لهم الشاعر الشهير جارثيا لوركا. المقابر يعرفها أهل هذه القرى غالبًا، لكن بدون هذا المشروع لم يكن ممكنًا استعادتهم. من هذه الحبكة، تنطلق يانيس للبحث عن أبي جدها وتلتقي ببنات وحفيدات ضحايا آخرين، توارثوا الحكاية كوصية واجبة النفاذ. ومن هنا تتفرّع الحكاية إلى حكايتين، كل واحدة منها تضم حكايات صغيرة.
تتأسس "أمهات متوازيات"، في حكايتها الأولى، على عبارة تقولها المرأة الناضجة يانيس، هي بالتأكيد فلسفة ألمودوفار في مرحلته الجديدة: "ما لم نجمع رفاة ضحايانا ستبقى الحرب قائمة"
ينمو حمل يانيس في طفلة بالتوازي مع السعي لحصول موافقة الجهات المعنية لفتح مقبرة جماعية تعرف يانيس مكانها. يكتمل الحمل بدون أن يكتمل المشروع، وبخطأ وارد تتبدل ابنة يانيس مع ابنة آنا عقب الولادة. يشكك أرتورو في بنوة الطفلة بعد أن لاحظ ملامحها الغريبة عنه وعنها، فيما يتعطل المشروع على الجهة الأخرى. ولأن يانيس المكلفة منذ البداية بدفع الحبكة، لأنها المهووسة باستعادة التاريخ وتأسيس المستقبل، تجرب اختبار أمومة لتكتشف أن طفلتها ليست طفلتها، ثم تتصاعد الدراما عندما تعرف أن طفلتها ماتت. ثمة سؤال يطرحه الفيلم عن الفقد منذ بدايته، يتأكد في لحظة استحالة رؤية المستقبل قبل رؤية الماضي ذاته. يوحي ألمودوفار بأن موت الطفلة المباغت طبيعي ومنطقي، لأن رفاة الأجداد لم تُجمع بعد. هذه العلامة المؤلمة يتبعها أمل جديد: موافقة الجهات المعنية بحفر المقبرة الجماعية يتوازى مع حمل يانيس الجديد، واستخراج الرفاة يوازيه اقتراب ميلاد طفل، واستلقاء أرتورو مع الحفارين في المقابر بعد فضها علامة أخرى على أن الحاضر يحل محل الماضي، وأن المقابر الجماعية تسع الجميع ما لم يُفتح ملف التاريخ وسؤاله.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Gun City"... كيف تنشأ الحرب الأهلية؟
توسل المخرج الإسباني بالإيقاع الهادئ، المناسب للتأمل، لطرح واحد من أهم أسئلة الحاضر الإسباني: الانقسام بين اليمين واليسار، حتى فيما يخص تقييم الديكتاتورية والحرب الأهلية. انقسام كانت نتيجته التلقي الباهت للفيلم نفسه (لم يحقق أكثر من مليونَي ونصف يورو، في مقابل فيلمه السابق "ألم ومجد" الذي حقق 6 مليون يورو) ولم يحظ بالكثير من المقالات النقدية داخل إسبانيا، فيما حظى بنجاح أكبر في فرنسا والولايات المتحدة، رغم أن الفيلم مسألة إسبانية صرف. توقيت الفيلم أيضًا يتسق مع صعود حزب فوكس اليميني المتطرف، ورغم أنه لا يحظى بشعبية كبيرة، إلا أن مجرد وجوده إشارة لميلاد فرانكوية جديدة. وهو ما أشار إليه ألمودوفار في حوار له، إذ فكرة المقابر الجماعية كانت تشغله منذ ربع قرن، لكن السياق الاجتماعي والسياسي دفعه لتنفيذها الآن.
"الأمهات المتوازيات" المجسّدة في الظاهر في يانيس وآنا، مجاز أكبر لأمهات أخريات متوازيات على مر التاريخ، أمهات ثكلى وفتيات يتيمات وأرامل، أمهات تبنينّ حياة ليست حياتهن لأن يد السلطة الحديدة نزلت بالمطرقة على رجال هذه العائلات، وألقت بهم جماعةً في مقابر، بدون حتى أن يتمتعوا بشواهد قبور ولا بورود تواسيهم في ظلمة القبر.
ورغم أن الفيلم مدته ساعتين، وينطلق من التخطيط لفتح المقابر الجماعية، إلا أن الحكاية الثانية (يانيس وآنا) تشغل مساحته الكبرى، لتحل الاستعارة محل الواقع، وليكون اكتشاف زيف الحاضر العلامة الأهم على وهم الاستقرار. بتلاقي الحكايتين، الواقعتين فعليًا على يمين يانيس ويسارها، تتحقق مقولة إدواردو غاليانو: "لا وجود لتاريخ صامت... فالتاريخ البشري يرفض أن يصمت".
اقرأ/ي أيضًا: