في كل فيلم من أفلامه، يُثير المخرج البريطاني كريستوفر نولان ضجة كبيرة، وهذا ما حدث مع فيلم "أوبنهايمر" الذي أثار جدلًا واسعًا قبل وبعد عرضه، الذي أنعش صالات السينما التي شهدت حالة من الركود خلال السنوات الأخيرة بسبب جائحة كورونا.
يتحدث الفيلم عن شخصية غيّرت مسار العالم بطرحه نظرية فيزيائية مرعبة. وما يجعل منه فيلمًا مختلفًا عن أفلام نولان السابقة هو السيناريو المعقد الذي يجمع بين الإثارة والغموض والحب والحرب والعلوم المرتبطة ببعضها. إضافةً إلى أداء كيليان مورفي، بطل الفيلم، المحيّر الذي يجمع بين التجبّر والضعف، الوضوح والغموض، في تقديمه لشخصية روبرت أوبنهايمر الذي جسّده في ثلاثة مراحل زمنية مختلفة هي الشباب ومنتصف العمر وما بعده. ناهيك عن لغة الجسد وتعابير الوجه المتقنة سواء تعلق الأمر بالخوف أو الحزن أو السعادة أو الحماس.
ما يجعل فيلم "أوبنهايمر" مختلفًا عن أفلام كريستوفر نولان السابقة هو السيناريو المعقد الذي يجمع بين الإثارة والغموض والحب والحرب والعلوم
وهناك أيضًا أداء روبرت داوني جونيور الذي جسّد شخصية "لويس ستراوس" الذي كان في البداية متعاونًا مع أوبنهايمر لكنه غيّر موقفه منه مع نهاية الفيلم، حيث تحول أوبنهايمر إلى عدو له، دون أن يبادله الأخير العداء. وكذلك أداء إميلي بلنت التي جّسدت شخصية زوجة أوبنهايمر "كاثرين"، وغيرها من الشخصيات الأخرى التي قدّمت أداءً ملهمًا.
يقدّم فيلم "أوبنهايمر" تجربة مميزة على مستوى المؤثرات الصوتية المبهرة التي لا تقتصر على الموسيقى وصوت الانفجارات فقط، بل تشمل الأصوات التي تدور في مخيلته أيضًا. وهناك كذلك مشهد انفجار القنبلة الذي يُفترض أن يكون صاخبًا، لكن الأصوات كُتمت ثم عاد مع صوت نَفَس أوبنهايمر بعد نجاح التجربة النووية. والحق أن المؤثرات الصوتية والتنقل بين الألوان هما من أبرز ما يميّز الفيلم. فالمَشاهد التي تُقدّم بالأبيض والأسود تُشير إلى وجود شيء ما خفي، على عكس المشاهد الملونة.
إلى جانب الفيزياء وعوالمها، هناك الحب أيضًا، إذ دخل أوبنهايمر في علاقة مضطربة مع الشيوعية "جين تاتلوك" (فلورنس بيو) ستأخذ فيما بعد طابعًا صداميًا يزيد من الشرخ المعنوي بينهما. لذلك وجد أن "كاثرين" هي الأقدر على أن تكون زوجةً له وأمًا لطفلته. ورغم أن العلاقة كانت في البداية مستقرة، إلا أنها توترت لاحقًا بسبب إهمالها وتجاهلها لما يقوم به، بالإضافة إلى اكتشافها مشاعره تجاه جين، الأمر الذي خلق بينهما فجوة وصعّب عليهما التفاهم حتى على مستوى الأمور البسيطة. وعندما أراد أوبنهايمر الإفصاح لجين عن مشاعره، كانت هي قد أنهت حياتها بسبب الضغوطات النفسية التي مرّت بها، إلى جانب ابتعاد أوبنهايمر، ما جعل الأخير يمر بصدمة نفسية سوف تنتشله منها زوجته التي ستسانده لإكمال مشروعه.
في الوقت نفسه، يسلط الفيلم الضوء على سباق التسلح بين الولايات المتحدة وألمانيا الذي لن يهدأ إلا بتطوير القنبلة النووية التي جنّدت أمريكا أوبنهايمر لصناعتها في "مشروع مانهاتن" الذي تولّى إدارته والإشراف عليه وعلى جهود أكثر من 1500 عالم فيزيائي وكيميائي اشتركوا، إلى جانب بعض ضباط الجيش، في تلك المهمة السرية التي انتهت بنجاح المشروع وإنتاج القنبلة عام 1945، ليصبح العالم منذ ذلك الوقت أكثر رعبًا.
يقترح أوبنهايمر بعد نهاية الحرب أن يكون السلاح النووي تحت السيطرة الدولية، وأن يتم حظر القنابل الذرية، كما رفض تطوير الأسلحة الهيدروجينية، الأمر الذي عرّضه لمضايقات عديدة كلّفته نفوذه وتصريحه الأمني إلى جانب اتهامه بأنه "شيوعي"، ثم اتهامه بالخيانة والتخابر لصالح منظمات شيوعية. هكذا أصبح أوبنهايمر الذي أوصل الولايات المتحدة إلى القمة منبوذًا مجرّدًا من نفوذه لسبب بسيط هو معارضته للتسلح السريع، وقد عاش نتيجة ذلك في اكتئاب شديد وصراع مستمر مع الذين انتشلهم من الضياع.
لا يروي الفيلم قصة أوبنهايمر فقط، بل يسلط الضوء على وضع حجر الأساس لتدمير العالم الذي تهدده الأسلحة النووية المنتشرة في دول مختلفة. ثلاث ساعات من الحب والخوف والقلق والعودة إلى الماضي المرير لمعرفة من كان السبب وراء تطوير النووية التي حصدت مئات الآلاف من الأرواح.