حلّت عواقب الماضي ضيفًا دسمًا في افتتاح الدورة الـ71 من "مهرجان كان السينمائي" لهذا العام، خلال عرض فيلم "الجميع يعلم - Everybody Knows" للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، الاسم الذي بات اليوم مكرسًا كواحد من أهم أعلام السينما العالمية وصار انتظار جديده حدثًا سينمائيًا بحد ذاته.
لماذا اختار فرهادي إسبانيا فضاءً لحكايته، وما الذي يجب أن يحدث هناك، ولا يمكن حدوثه في مكان آخر؟
فتح فرهادي عدسة كاميرته هذا العام في إحدى كروم العنب الإسبانية، آخذًا معه كلًا من بينلوبي كروز بدور لورا وخافيير بارديم بدور باكو، بالإضافة للممثل الأرجنتيني ريكاردو دارين بدور أليخاندرو زوج لورا.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "البائع" بين أصغر فرهادي وآرثر ميلر
هذه التركيبة التي زادت على انتظار الفيلم ألقًا فنيًا منذ أن علمنا قبل عام تقريبًا بأن البطولة في الفيلم الجديد ستكون مختلفة، وهكذا حمل الثلاثة سويةً عبء حكاية من حكايات العودة إلى الوطن، من تلك التي تُشرع معها الأبواب الموصدة أمام الأسئلة والاستعادة الفوضوية لكل ما كان معلقًا ومتروكًا. نتسلل مع الكثير من الترقب إلى مساحة خضراء مفهومة منذ البداية، ما يعطينا انطباعًا بأن البساطة أمر مقصود هنا وريثما تترتب لتصير حدثًا أساسيًا في سياق الحكاية.
لماذا اختار فرهادي إسبانيا فضاءً لحكايته، وما الذي يجب أن يحدث هناك، ولا يمكن حدوثه في مكان آخر؟ بدون إجابات دقيقة نصل مع لورا وابنيها من بوينس أيرس إلى إسبانيا من أجل حضور حفل زفاف شقيقتها. تلك القرية مكان مثالي يتحقق فيه معنى العودة، فحرارة الطقس تزيد من حدة الانفعالات بين أفراد العائلة تلك، لنرى بإيقاع سريع أراد من خلاله فرهادي أن يوصل إلينا بهجة ذلك اللقاء بعد انقطاع طويل، فيعيد تشكيل العلاقات العائلية وصلات القربى، بين أشواق وعناق وثرثرة خفيفة نرى إسبانيا بتقاليدها المحلية الدقيقة. يصل الضيوف إلى بيت العائلة ويفتحون النوافذ، فاسحين المجال للضوء بأن يدخل ليكشف عن أسرار الماضي الدفينة. كل شيء عادي حتى منتصف الفيلم، لقاءات وتعارف، حتى ما يعرفه الجميع على غرار اسم الفيلم، بدا عاديًا جدًا لنا. فما الذي ستفتحه هذه العودة؟ الجميع سعداء في حفل الزفاف حتى لحظة انقطاع الكهرباء، والتي بدأت معها حكاية الفيلم المثيرة، باختفاء ايريني ابنة لورا في ظل غموض مفزع، لا نعرف كيف اختفت، اختطفت أم ذهبت بقرار منها. اختفاء مفاجئ على غرار اختفاء إيلي في فيلمه "عن إيلي – About Elly" ولكن بمقدمات أبسط وروابط أقل.
جرت العادة حين نشاهد فيلمًا لفرهادي أن نتساءل خلال المشاهدة هل حدث ما حدث عمدًا أم عن طريق الخطأ؟ ليس لأن نصوصه تتمتع بقدر عالٍ من الغموض والمصادفة، بل لأنها تضعنا أمام العديد من الاحتمالات فنقف حائرين أمام سيل الأحداث المتدفقة. أما في فيلم "الجميع يعلم" فكانت مهمة المتلقي ربما أسهل بكثير من تلك التي واجهته في فيلم "الانفصال" أو في فيلم "البائع".
فالجميع هنا كحال اسم الفيلم "يعلم" بأن الابنة مخطوفة ومعرفة هوية الخاطفين ليست بالأمر المستحيل، ليستيقظ فجأةً الجدال حول ملكية باكو صديق العائلة لمزرعته. ففي حال أراد مساعدة لورا بإيجاد ابنتها عليه أن يبيع المزرعة ليدفع للخاطفين المبلغ المطلوب. هذا ما حدث، ولكن لا نفهم كيف حدث ذلك بسبب الإخراج غير المحكم لتلك المؤامرة، من دبر وخطف وطلب الفدية ليدفعها شخص واحد ومحدد دونٍ عن البقية، لماذا وُضِع باكو أمام ذلك الخيار؟ تحرير الفتاة مقابل بيع مزرعته. هل بيع الأرض من قبل باكو لدفع الفدية للخاطفين مؤامرة من عائلة لورا التي كانت تملكها من قبل؟ خصوصًا بعد أن أفصحت لورا عن سر قديم بأن إيريني هي ابنة باكو، وهو الوحيد القادر على تخليصها، في مشهد ذكرنا بمشاهد المكاشفة في أفلام العصابات، حين يقف الفيلم كله على قول جملة. عند ذلك الحد من السأم يتركنا فرهادي خلال آخر ساعة من عمر الشريط، ويترك بطله باكو أمام مشاعر الذنب والمراجعة الذاتية للتنقيب عن حل.
تحافظ الشخصية الذكورية في أفلامه على مميزاتها سواء كانت إيرانية أم من جنسية أخرى، فالمسؤولية أمام الصدق والشرف والواجب حاضرة دائمة، تدفع الشخصيات للتحرك نحو هدفها وتقودها مباشرة إلى فعل محدد يجب أن تقوم به، أما الشخصيات الأنثوية فهي غالبًا من تدفع الثمن، ببراءتها وبساطتها تدور في فلك الآخرين تتأثر وتتضرر وغالبًا لا تنجو.
يتطرق فرهادي هذه المرة بفيلمه الإسباني الصبغة إلى أسئلة الأبوة والملكية، من هو الأب الحقيقي؟ ومن هو المالك من وجهة نظر التاريخ؟ حلّت تلك الأسئلة ثقيلة الظل وخيمت على أحداث الفيلم الجديد. فينتهي بين ابتسامة الرضى عند باكو الذي لا نعرف ماذا سيحل به كمالك للأرض، لكنه انتصر على الماضي باعتباره الأب المنقذ والمحبوب المخلّص أيضًا مهما أبعدته الجغرافيا وغيّره الواقع. أمّا لورا وزوجها فكيف سيواجهان سؤال ابنتهما، لماذا باكو هو من أتى ليساعدني؟
في "الجميع يعلم"، تجاوز أصغر فرهادي مشكلة اللغة وغرابة المكان وأنتج فيلمًا بصبغة إسبانية
حل فيلمه الطويل الثامن والمنتظر برخاوة لم نعتد عليها في تاريخه السينمائي، حيث تُحمل ركائز الفيلم على مقومات حكائية خفيفة، يمكن أن تمحوها لو السحرية. ماذا لو لم تقل الشخصيات ما قالته؟ وقتها لن يكون لدينا فيلم.
اقرأ/ي أيضًا: جعفر بناهي.. سأحلم بعالم حر
البوح كحامل رئيسي للفيلم أضعفه بدل أن يدعمه، مثل كشف سر كان متفق على السكوت عنه، وعرفنا بأنه أمر بديهي للجميع. (أبوة الابنة وملكية الأرض) لنلاحظ بأنه ما من داع للقول، فالمشاهد قد وصل وحيدًا لما تريد الحتوتة أن تقوله. وهذا ما جعله فيلمًا ضعيفًا أمام ما كشفه من أسرار. لم يبتعد فرهادي فقط عن إيران بل ابتعد كل فيلمه. صبغت كاميرا المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار أطرافه، ربما بسبب حرفية المصور الإسباني خوسيه لويس ألكاين، الذي أدار مهمة تصوير الفيلم متأثرًا بتاريخه الطويل مع ألمودوفار وكارلوس ساورا، ليصبح فيلم فرهادي ابنًا جديدًا لتلك البيئة بلقطات ملونة وحبكة سوداء.
ختامًا تحسب لفرهادي هذه المرة باستحقاق بأنه من بين المخرجين القلائل ممن تمكنوا من تجاوز مشكلة اللغة وغرابة المكان، لإنتاج فيلم بصبغة إسبانية، ربما لأن مهمة الغريب دائمًا ملاحظة التفاصيل المسكوت عنها.
اقرأ/ي أيضًا:
الرحلة في ثلاثية الشمال الإيراني لعباس كيارستمي
"تاكسي طهران" والبحث عن الخلطة السحرية لنجاح السينما الإيرانية