أثار فيلم "الحارة" لمخرجه باسل غندور انقساما في الرأي العام الأردني بين الرضى والسخط، وقد تركّز أغلب النقد الذي وجّه للفيلم حول ما رآه البعض تشويها لصورة المجتمع الأردني، وتضخيما للسلبيات، وتركيزا على الانحرافات المجتمعية التي امتلأ بها الفيلم، بدءا من مشاهد القتل الصادمة، مرورا بعالم الليل وحكاياه في عمان، وانتهاء بالشتائم التي تخللت أحاديث أبطال الفيلم. انطلق هذا النوع من النقد من فكرة أساسية: فيلم "الحارة" لا يمثّلنا.
ثمّة مشكلتان أساسيّتان في وصف فيلم "الحارة" بأنّه "لا يمثّلنا"، أولاهما أبسط من الأخرى. المشكلة البسيطة الأولى تكمن تحديدا في هذه الـ "نا"
ليست هذه أول مرة يواجه فيها عمل فني أردني استجابة كهذه، إذ ظهرت في السنوات القليلة الماضية استجابات مماثلة لأعمال فنية أخرى، لا سيما التلفزيونية منها، كمسلسلي "جن" و"مدرسة الروابي للبنات". ولا شكّ أن بثّ هذه الأعمال عبر منصات رقمية كـ"نيتفلكس" قد ساهم في إيصالها إلى شريحة واسعة من المشاهدين، داخل الأردن وخارجه، وهو ما زاد من حدّة النقد ووسّع قاعدة التلقي لهذه الأعمال.
سأحاول في الفقرات التالية أن أقارب هذه الاستجابة الناقدة لفيلم "الحارة" بغية فهم منطقها وأسبابها، وسأبيّن أن هذه الاستجابة تنبني في مجملها على افتراضات معينة تتحكم في تلقي البعض للعمل الفني. ضمن هذا الإطار فإنني لست معنيّا هنا بتحليل الفيلم ولا التعليق على جوانبه السردية، فذلك يحتاج لوقفة أخرى. ما يعنيني أساسا في هذه المقالة هو ذلك النقد الذي وجّه للفيلم بحجة أنه لا يمثّل الأردن تمثيلا حقيقيا.
ثمّة مشكلتان أساسيّتان في وصف فيلم "الحارة" بأنّه "لا يمثّلنا"، أولاهما أبسط من الأخرى. المشكلة البسيطة الأولى تكمن تحديدا في هذه الـ "نا". من نقصد تحديدا حين نقول إن الفيلم لا يمثّل الأردنيين؟ تفترض هذه الجملة أن هناك شيئا محددا، مستقرا، ثابتا، متجانسا، اسمه "الأردنيون"، وأن هؤلاء الأردنيين اتفقوا فيما بينهم على نوع هويتهم، ونمط حياتهم، وطريقة رؤيتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لا شكّ أن القوميات تؤسّس، حين تؤسّس، على الرغبة في تصديق وجود هذه الهوية الجامعة، ومن الصعب تخيل دولة حديثة لم تبدأ، حين بدأت، دون وجود أسس مشتركة جمعت بين أفرادها المنتمين إليها. خَلْقُ التجانس، في لحظة ما، ضرورةٌ لتخيل شكل القوميات الحديثة، لكن الدول والمجتمعات تتطوّر بعد ذلك، وتتشعب، وتتعقد، إلى درجة لا يعود معها ممكنا الحديث عن أفراد هذه الدولة بصيغة لغوية واحدة.
يُحبّ بعض الأردنيين أن يصدّقوا وجود تعريف واحد للأردنيّ، وسلوك واحد للأردني، ولغة واحدة للأردني. تساهم هذه الصورة الرومانسية في تقديم أجوبة مريحة عن البلد وواقعه وظروفه، لكنها في نهاية المطاف أجوبة مزيفة. لا نحتاج لكثير من التأكيد على أن الهوية الواحدة ليست خرافة فحسب، بل هي أمر خارج الطبيعة البشرية أصلا. ومع التغيرات التي شهدها الأردن في العقود الأخيرة، والتفاوت الطبقي الهائل بين عمان من جهة، والمحافظات الأخرى من جهة، وبين عمان الغربية تحديدا وما سواها، فإن أي حديث عن إنتاج فني "يمثلنا" يصبح نوعا من الترف الذهني.
لكنّ هناك مشكلة أكثر تعقيدا تنطوي عليها عبارة "هذا الفيلم لا يمثّلنا". لماذا نفترض أن فيلم "الحارة" يريد أن يمثّلنا أصلا؟ يقوم هذا الافتراض على قراءة مجازية للفيلم، تتعامل معه بوصفه كناية عن الأردن، وبوصف الحارة عالما مصغرا يهدف من خلاله صنّاع الفيلم إلى "تقديم" الأردن إلى المشاهد. ضمن هذه القراءة لا يعود "علي" و"هنادي" و"عباس" و"أسيل" وغيرهم من أبطال الفيلم مجرد شخصيات متخيلة ضمن فيلم متخيل، وإنما يصبحون رموزا نبحث عبرها عن معان أكبر منها. لا تعود الحارة مجرد فضاء، ضمن فضاءات أخرى يمتلئ بها الأردن، بل تصبح "الفضاء"، بألف ولام التعريف، تصبح الأردن ذاته، وينتقل الفيلم من كونه حكاية متخيلة ضمن حبكة ما إلى كونه موازيا للدولة التي تجري أحداثه فيها.
تثير فكرة قراءة العمل الأدبي/الفني قراءة مجازية بوصفه أمثولة قومية (National Allegory) نقاشا كبيرا بين المفكرين، سيّما حين توظف هذه الفكرة في معرض التمييز بين الإنتاجات الأدبية فيما يسمى "العالم الأوّل" و"العالم الثالث". وقد ارتبطت هذه الفرضية تحديدا بالناقد الأمريكي "فريدريك جيمسون" (Frederic Jameson)، الذي تعرّض لهجوم كبير حين افترض أن جميع الأعمال الأدبية في العالم الثالث ما هي إلا كنايات قومية، خلافا للعالم الأول الذي يمكن فيه أن نقرأ العمل قراءة حرفية دون أن نربطه بالضرورة بمعان سياسية تقف خلف شخصياته. وقد أقام جيمسون تمييزه هذا على أساس حضور الفردية الهائل في الرأسمالية الغربية، والذي مكّن الفرد الغربي من خلق فضاءات خاصة خارج مجال الدولة العام، فيما ساهم التاريخ المعقد للعالم الثالث في علاقته بالرأسمالية والاستعمار في إجهاض نشوء فردية حقيقية قادرة على تجاوز سرديات الدولة القومية التي تعيش عبرها.
أشار نقّاد "جيمسون" إلى مدى التعميم الشديد الذي تتسم به فرضيّته، وإلى استحالة وجود هذا التماثل الهائل في إنتاجات ما يسمّى زيفًا بالعالم الثالث، إضافة إلى خطورة تلك النظرة الثنائية الحدّيّة إلى الفرد وعلاقته بالمجال العام في العالمين. لكن الغريب أن كثيرا منا يستدخل، بطريقة لا واعية، ودون أن يسمع باسم "جيمسون" أصلا، نظرته في تلقي الأعمال الفنية خارج الغرب. حين نشاهد فيلما أمريكيا، فإننا لا نقيّمه بناء على كونه "يمثّل" أمريكا أم لا. نتعامل مع فيلم "الثور الهائج" (Raging Bull)، مثلا، من منطلق أنه فيلم عن فرد ملاكم، تحكمه علاقات معينة بأفراد معينين، ضمن سياق تاريخي ومكاني معيّن في أمريكا. الإنتاجات الأمريكية حكايات، بالنسبة لنا، نقيّمها بناء على جودتها، وحبكتها، وقدرات ممثليها. لا نسيّسها بالضرورة، لا نبحث عن أمريكا خلفها، لا نسعى لتحويلها لمجاز.
يختلف الأمر تماما لدى البعض حين يشاهد فيلما أردنيّا. تتحول شخصيات الفيلم إلى رموز. نبحث عن وطننا في كل مشهد. نبدأ بالحكم السياسي والأخلاقي. نكرر عبارة "هذا غير صحيح"، مع أغلب المشاهد، وكأن الفيلم تحوّل فجأة لعمل وثائقي ونحن نحاول أن نحاكمه طبقا لعلاقته بواقع معين عن الأردن في أذهاننا. نريد أن نعرف أين هي الحارة التي يشير إليها فيلم "الحارة". أي جزء من عمّان هذا؟ عمّان كلها؟ هل قصد الأردنّ كله؟ هل نحن حارة؟ وعبر تلك الأسئلة الباحثة عن مجاز الحارة، يضيع احتمال ألا يكون المخرج قد قصد في الحارة كل تلك المعاني التي نبحث عنها. قراءتنا المجازية للفيلم لا تتيح لنا أن نتعامل مع الفيلم بوصفه يخلق الواقع، ولا يعكسه بالضرورة.
قد يكون من أسباب هذه الحدّة في التعامل المجازي مع فيلم "الحارة" وغيره ندرة الإنتاجات الفنية الأردنية. ينتظر الأردنيون عاما أو عامين كي يظهر فيلم أو مسلسل يعتقدون أنه "سيمثّلهم"، وحينها يبدأ كل واحد فينا بالبحث عن نفسه في هذا العمل أو ذاك، أو في البحث عن الصورة المتخيلة التي رسمها للأردن، وحين لا يجدها يبدأ في الانتقاد. يشعر بعض الأردنيين أنهم مسؤولون شخصيا عن ذلك العمل الأردني الوحيد على "نيتفلكس"، ويريدون له بالتالي أن يكون كما يريدون هم، لا كما يريد مخرج العمل. لو كان الإنتاج الأردني أكثر زخما، لتعددت السرديات، كما يحدث في مصر مثلا، ولقلّت الرغبة في القراءة المجازية للعمل.
قد يكون من أسباب هذه الحدّة في التعامل المجازي مع فيلم "الحارة" وغيره ندرة الإنتاجات الفنية الأردنية. ينتظر الأردنيون عاما أو عامين كي يظهر فيلم أو مسلسل يعتقدون أنه "سيمثّلهم"، وحينها يبدأ كل واحد فينا بالبحث عن نفسه في هذا العمل أو ذاك
هل فيلم "الحارة" "يمثلنا" أو "لا يمثلنا"؟ لا هذه ولا تلك. لا وجود لصورة واحدة لنا أصلا كي يعكسها فيلم. لا يجب على الفيلم أن يمثّل شيئا خارج منطقه الداخلي. جودته أو رداءته تتعلق بحبكته وسرده وإخراجه وتصويره وتمثيله. الفيلم ليس مجازا لشيء أكبر منه. الحارة تقبع داخله فقط، وحين ينتهي الفيلم، تنتهي تلك الحارة معه.