أوّل ما يصدمنا في فيلم "باربي" هو مشهد البداية، الذي تَحكي عنه راويةٌ في الخلفية، ويُصوّر مجموعة من الفتيات يجلسنَ وهنّ يلعبنَ بدمى على شكل أطفال حديثي الولادة (بيبي). الفتيات يلعبن بتلكَ الدمى ويقمنَ بإطعامها والاعتناء بها، حتى تَظهر دمية باربي في شكلها العملاق وبجسمها المثالي وكعبها العالي وفخذيها العاريتيْن، وتتبدّى أمامهنّ في شكل المسيح المخلّص، وتكون غمزة منها، كفيلة بإبهار تلكَ الفتيات اللواتي يدخلنَ على إثرها في حالة تُشبه الاستفاقة من غيبوبة، ويقمنَ بتحطيم وتكسير دمى الأطفال بأيديهنّ، وبشكل فجّ وعنيف.
صدمني مشهد البداية لأنّني استحضرتُ فيه مفهوم "العنف الرمزي" لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، حيثُ قرأتُ فيه عنفًا رمزيًا واضحًا ضدّ فكرة الأمومة، وقلتُ في نفسي سأجعل من مفهوم بورديو هذا أساسًا ومنطلقًا في قراءة الفيلم وتحليله.
يُفتتح فيلم "باربي" بمشهد فيه عنف رمزي ضد الأمومة، حيث تظهر دمية باربي لفتيات يلعبن بدمى الأطفال، وبسبب تأثيرها السحري عليهن يقمن بتحطيم تلك الدمى
يعرّف بورديو العنف الرمزيّ على أنّه "أيّ نفوذ يُفْلِح في فرض دلالات معيّنة، وفي فرضها بوصفها دلالات شرعيّة، حاجبًا علاقات القوّة التي تؤصّل قوّته"، فالعنف الرمزي هو عبارة عن فعالية ذهنية تُمارَس عبر أشكال لغوية ودلالية وفكرية ومعنوية عدة، ويصدر غالبًا عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة والسيطرة، ويأتي بقصد السيطرة على الآخر وفرض الهيمنة عليه، فهذا النوع من العنف بحسب بورديو يأخذ صورة رمزية خفية ملتبسة، تمكّن ممارسها من تحقيق أهدافه، دون أن يضطر إلى استخدام القوة الواضحة والمعلنة.
وقبلَ التطرّق إلى صور ورسائل العنف الرمزي الذي تضمنها الفيلم وجاءت تستهدف الرجال والنساء معًا، فيُمكن القول بأنّ جريتا جيروج، كاتبة سيناريو الفيلم ومخرجته، تَظهر فيه كما لو كانت قوة اجتماعية موجودة في موقع الهيمنة والسيطرة وتُحاول من خلال مشاهد الفيلم وحواراته توجيه رسائل بصرية ولغوية معينة من أجل توليد آراء ومعتقدات معينة في عقول متلقي ومشاهدي الفيلم، حيثُ تحمل هذ الرسائل على إشارات وتلميحات من الفكر النسوي في صيغه الأكثر تطرفًا، وهو الفكر الذي لا يأتي من أجل تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في المجتمعات، بل من أجل هدم التسيّد الذكوري، لصالح التسيّد الأنثوي، وتكوين مجتمعات تُدفَع فيها المرأة إلى المقدمة، في حين يُلقى بالرجل في مواضع الهامش.
يحكي الفيلم قصة باربي، تلكَ الدمية التي تعيش في عالمها الوردي المثالي (باربي لاند)، الذي تحتّل فيه هي والباربيات الأخريات مكان الصدارة، فهنّ الحاكمات والمتحكّمات في هذا العالم، وهنّ الطبيبات والكاتبات والمهندسات اللواتي يحصدنَ الجوائز، وينفردنَ بإقامة الحفلات الراقصة كلّ ليلة، أما الدمية كين، وهو تمثيل للرجل في هذا العالم، فيتواجد في شكل غير مدرِك وواعٍ لذاته ولا مقدّر لها، وهو لا يشعر بذاته أو ينال التقدير من بقية رفاقه (دمى كين الآخرين) إلا بعد أن تنظر له باربي ويرى نفسه في عينها.
يُصوّر الفيلم باربي وكين وهما يزوران العالم الواقعي ويُبصران واقع وحقيقة الذكورية التي فيه، ثمّ يعود كين إلى باربي لاند محمّلًا بأفكار هذا العالم، ويَسعى لإحداث ثورة ذكورية لفرض التسلّط الذكوري في باربي لاند، وينجح في ذلك، وتتحوّل البارييات إلى مجرّد خادمات لدمى كين، حتى تعود باربي فتدخل في حرب معه وتستعيد في النهاية السلطة الأنثوية في عالمها الوردي المثالي.
إنّ العنف الرمزي يظهر واضحًا وجليًا في العديد من الرسائل البصرية التي تضمنها الفيلم، والتي يُمكن ملاحظتها في شكل عالم باربي المثالي، الذي تصوّر فيه وضعية النساء كمتسيدات ومتسلّطات بصفتها الوضعية المثالية والوردية الطبيعية التي يجب على العالم أن يصطبغ بها ويكون عليها، فكأنّ الفيلم يريد أن يبثّ في عقول المشاهدين والمتلقين بأنّ المجتمعات التي تتسيّد فيها المرأة وتُحقّق ذاتها، ويُهمّش الرجل، أو يكون غير مدرك لوجوده أو واعٍ لذاته؛ هي المجتمعات المثالية للعيش فيها.
يظهر العنف الرمزي في الفيلم كذلك في كثير من الحوارات والرسائل اللغوية، التي تضمنت على أفكار وآراء حول صورة المرأة ووظائفها، فمشهد البداية -سابق الذكر- يحتوي على رسائل خفية حول صورة المرأة العصرية الفاعلة في المجتمع، والتي لا يُمكن أن تكون أمًا، باعتبار الأمومة وظيفة أنثوية تنتمي إلى أزمنة وحقب بائدة كانت فيها الفتيات تلعب بدمى الأطفال، قبلَ أن تَظهر باربي وتُعلمهنّ ارتياد مختلف المواقع الوظيفية التي يحضرنَ فيها كطبيبات وكاتبات ورائدات فضاء وغيرها من الوظائف العديدة الأخرى.
لعلّ اللون الوردي الذي بدأ يظهر لنا في محرّك البحث جوجل، منذ إطلاق فيلم باربي، هو أكبر ممارِس للعنف الرمزي على عقولنا، فنحنُ ما أن نكتب كلمة باربي في هذا المحرّك، حتى تتلون الصفحة بهذا اللون
ومن الرسائل اللغوية التي تضمنت عنفًا رمزيًا في الفيلم، الحوار الذي يدور في المشاهد الختامية في الفيلم بين المدراء التنفيذيين لشركة ماتيل -وهي الشركة المصنّعة لدمية باربي- وبين الرسامة المسؤولة عن تصميم أشكال جديدة من الدمية، فالرسامة تُخبر أولئك المدراء باقتراحها لتصميم دمية باسم باربي العادية، وهي باربي تبتعد عن أشكال باربي النمطية والتقليدية وتكون بلا كعب عالي أو صدر بارز، فتلقى فكرتها الترحيب منهم، ويثنون عليها ويؤكدون بأنّ هذه الدمية الجديدة ستكون مصدرًا مضمونًا لزيادة رأسمال الشركة وتدفّق الأموال عليها، فكأنّ هذا الحوار يَحمل في باطنه إشارة خفية، إلا أنّ المرأة مهما كان شكلها وشكل جسدها وطريقة لباسها، وحتى لو كان مظهرها يبتعد بشكل كبير عن الأشكال المثالية السائدة والمنتشرة في أسواق الموضة الاستهلاكية، فستبقى تدور في حلقة الرأسمالية، وسيبقى لرأسمال طريقته في استثمار شكلها وتسليع جسدها وتحويله إلى جسد للعرض، وإخضاعه للبيع والطلب.
لعلّ اللون الوردي الذي بدأ يظهر لنا في محرّك البحث جوجل منذ إطلاق فيلم باربي، هو أكبر ممارِس للعنف الرمزي على عقولنا، فنحنُ ما أن نكتب كلمة باربي في هذا المحرّك، حتى يتبدى لنا اللون الوردي في إضاءات وزركشات لونية مبهجة، نعتقد من خلالها، أننا سنشهد مع باربي، تجربة مشاهدة لفيلم ظريف ومبهج، دون أن نعرف مستويات وصور العنف الرمزي المخبأ لنا منذ المشهد الأول حتى المشهد الأخير.