يُحاول فيلم "طهران تابو" (2017) للإيراني علي سوزنده أن يوازن بين المعالجة الدرامية لموضوع إنساني، والشكل البصري المُبسّط في تناوله للمعالجة نفسها. صعوبة أو استحالة تصوير أحداث الفيلم في طهران دفعت سوزنده إلى اللجوء إلى تقنية الروتوسكوب المرهقة لإنجاز فيلمه، أي البدء بتصوير أحداث يؤدّيها ممثّلين حقيقيين في استديو، ومن ثمّ إعادة رسمها بحيث تتحوّل إلى رسوم متحركة منحت أحداث الفيلم خفّة وسيولة مكّنته من اكتشاف مدينة طهران بمتاهاتها وأماكنها المخفية، وإن بشكلٍ غير كافٍ لتكوين صورة متكاملة عنها، والاكتفاء بصورة تخدم سياق أحداث الفيلم.
يقدّم علي سوزنده في افتتاحية فيلمه "طهران تابو" مشهدين صادمين، ولن يتوانى عن تقديم مشهد ثالث يُضاعف من تأثير هذه الصدمة على المشاهد
يؤسّس سوزنده فيلمه على ثلاث نساء بخلفياتٍ ثقافية مختلفة، بحيث يتمكّن عبرهنّ من إظهار المدينة في لحظات غرقها في الخوف الذي يجعل من كل شيء فيها يسير على نحوٍ غير ملائم. هكذا، سنكون إزاء مدينة رمادية وبائسة، يغرق سكّانها في النفاق الديني والمعايير المزدوجة والكذب وقمع النساء. ويعيش الفرد فيها ارتباكًا حاصلًا بينه وبين نفسه من جهة، وبينه وبين محيطه الذي يقيم فيه، بثقافته وناسه ومفاهيمه من جهةٍ أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: المخرج خارج البيت.. السينما في المكان الغريب
إلى جوار النساء الثلاثة التي يشكلنّ ثلاث حكاياتٍ تسير في نسقٍ واحد، سيضيف علي سوزنده شخصيات أخرى تحاول اكتشاف ذاتها الهجينة عبر اكتشاف المدينة بشكلها الصحيح أولًا. إذ إنّ فهم علاقتهم بها ستكون مدخلًا لفهم معالم علاقتهم بأنفسهم، بارتباكاتها وتمزّقاتها وكذلك قلقها. هكذا، ستنشأ بين هذه الشخصيات مجتمعةً علاقة صدامية بحكاياتها اليومية، تمهّد لصنع فضاءٍ إنساني مفتوح على سردٍ يميط اللثام عن ذوات متعبة بأحلام معلّقة وخيبات عديدة ومسالك متناقضة، تجعل من النسق العام في الفيلم، والذي كان في البداية يعتمد على سرد أمور شخصية تتعلّق بهذه الشخصيات فقط، إلى الكشف عن أنماط عيش مخيفة وأحوال جغرافيا ممزّقة ومحاصرة بالعادات والتقاليد الاجتماعية الجديدة والقائمة أيضًا على أساس ما يُعرف بـ "الفضائل الإسلامية".
المخرج إيراني المولد، ألماني الجنسية، اختار لفيلمه هذا شخصيات ترفض واقعها وأنماط عيشها، ولكنّ هذ الرفض نفسه يعجز عن الانقضاض على المرفوض، وإنهائه كذلك. فالحسابات التي تجريها هذه الشخصيات داخل هذا الفضاء الخانق، تقودهم إلى قناعة راسخة بأنّ نقض ما هو مفروض ومألوف والعيش عكسه لن يؤدّي إلى مكان غير ساحات الإعدام. وبالتالي، يصير عيش المألوف ورفضه بدل نقضه، أسهل من كسره.
في المشاهد الأولى من الفيلم؛ نرى سائق سيارة أجرة يجلس خلف عجلة القيادة يساوم بائعة هوى على ثمن ممارسة الجنس معها، بيد أنّ المال الذي في حوزته لا يكفي لغير ممارسة جنسٍ فمويٍّ على عجلة وداخل السيارة. المفارقة الصادمة في المشهد أنّ بائعة الهوى، باري (إلميرة رفيزاده)، اصطحبت ابنها البالغ من العمر ستّ سنوات معها. سنراه يشاهد أمّه وهي تمارس الجنس الفموي مع السائق، بملامح هادئة، وكأنّه مُعتاد على الأمر. بينما تبدو أمّه مطمئنة، والسبب أنّ ابنها أبكم. لن يطول المشهد كثيرًا، إذ إنّ رؤية السائق لابنته وهي تسير برفقة شاب يمسك بيدها، ستدفعه للانفجار غضبًا، مُطلقًا سيلًا من الشتائم، ومُذكًرًا بقوانين وعادات المجتمع الإيراني الإسلامي.
من سيارة الأجرة، ستنتقل عدسة سوزنده إلى محكمة إسلامية إيرانية. هناك، سنرى باري تُحاول إنهاء معاملة طلاقها من زوجها الذي سُجن بسبب إدمانه على المخدرات. سوف تتوسّل باري إلى القاضي/المعمم الذي يرفض التوقيع على معاملة طلاقها لأنّ توقيع زوجها غير موجود، ولكن دون جدوى. وبينما تهمّ بالخروج، يعرض عليها القاضي أن تصير عشيقته مقابل التوقيع على المعاملة، وهو ما يحدث لاحقًا، إذ تصير باري عشيقته، ويقدّم لها شقّة تسكن فيها برفقة ابنها، وفي مكانٍ محترم، بعيدًا عن عشوائيات المدينة وعوالمها السفلية.
قدّم علي سوزنده إذًا في افتتاحية فيلمه مشهدين صادمين، ولن يتوانى عن تقديم مشهد ثالث يُضاعف من تأثير هذه الصدمة على المشاهد. ويُمهّد في الوقت نفسه للمشاهد التالية؛ حفل موسيقي سرّي وصاخب في أحد الأماكن السرّية في طهران، حيث سيمارس عازف موسيقي شاب الجنس على هامش الحفل مع فتاة في دورة مياه، قبل أن تنتقل العدسة نحو مسجد يسمع منه صوت الآذان.
تؤسّس هذه المشاهد الافتتاحية لحكايتين؛ الأولى حكاية بائعة الهوى باري وعشيقها القاضي. والثانية حكاية العازف، باباك (آراش ماراندي)، والفتاة التي مارس الجنس معها في دورة المياه، دنيا (نيجار منى علي زاده). من الحكاية الأولى، ستخرج حكاية ثالثة بطلتها جارة باري التي تعيش في منزل أهل زوجها. عائلة تبدو للوهلة الأولى محترمة، قبل أن نرى الأب يشاهد القنوات الإباحية وقنوات المحاضرات الإسلامية في وقتٍ واحد، ونشاهد ابنه يُحاول ممارسة الجنس مع باري، صديقة زوجته سارة (زارا أمير إبراهيمي) التي تُحاول إقناعه بالسماح لها بالعمل، دون أن تنجح، مُتذرّعًا بأنّ عليها البقاء في المنزل والاعتناء بجنينها. سنعرف أنّ سارة أجرت عمليتي إجهاض نكايةً بزوجها، وحين يرفض الطبيب إجراء عملية الإجهاض الثالثة ستوهم الآخرين بأنّها عاهرة، وتقوم برمي نفسها من سطح المبنى الذي تسكنه، كخطوة أخيرة للتحرّر من سطوة مجتمعها.
سرد علي سوزنده في "تابو طهران" حكاية أفراد يريدون الخلاص من مجتمعهم، وكذا التحرّر من بؤس الانتماء إلى بيئة لا يريدون العيش فيها
على الجانب الآخر، سنتابع حكاية باباك ودينا وهي تتكشّف مُبيّنةً هواجسهما وأحلامهما. يُحاول الأول الخروج من إيران، وتُحاول دنيا فعل الشيء نفسه. ستخبر الأخيرة باباك بأنّها فقدت عذريتها أثناء ممارستهما الجنس في دورة المياه، وأنّ هذا الأمر سيقلب حفل زفافها إلى مآتم لن يسلم منه هو أيضًا. هكذا، سيشرع الشابان في البحث عن مخارج لهذه الكارثة. سيجرّبان أولًا أغشية بكارة مصنوعة في الصين، قبل أن يقع خيارهما على إجراء عملية رتق للغشاء. ستأتي دنيا إلى الموعد برفقة باري التي ساعدت باباك في الحصول على قرضٍ من البنك لتغطية تكلفة العملية، ولكنّ الأخير سيختفي فجأة. هنا، ستعترف دنيا لباري بأنّها ليست مخطوبة، وأنّ الرجل الذي أوهمتهم بأنّه خطيبها، هو في الأصل تاجر بشر يرسل الفتيات العذراوات إلى دبي، حيث يدفع العرب هناك مبالغ ضخمة لقاء مضاجعتهنّ، بمعنى أنّ الأمر برمّته كان لأجل الخروج من إيران أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: الرحلة في ثلاثية الشمال الإيراني لعباس كيارستمي
سرد علي سوزنده في "تابو طهران" حكاية أفراد يريدون الخلاص من مجتمعهم، وكذا التحرّر من بؤس الانتماء إلى بيئة لا يريدون العيش فيها. ويستخدم الجنس غير الشرعي لمقاربة أحوالهم وهم يعيشون أقصى لحظات قلقهم ومخاوفهم وكذا ارتباكهم.
اقرأ/ي أيضًا:
5 ممثلين أثروا في السينما الإيرانية المعاصرة
"تاكسي طهران" والبحث عن الخلطة السحرية لنجاح السينما الإيرانية