تُعيد صوفيا كوبولا في شريطها الجديد "The Beguiled" (المخدوع) صياغة القصة الأصلية من وجهة نظرٍ أنثوية صافية، وبحبكة سردية مختلفة عن التي قدمت سابقًا في بداية السبعينيات، ولم تلقَ كل هذه الضجة التي نالتها صوفيا كوبولا سواءً كان ذلك بكمية المديح أو النقد الذي طالها في المواقع الأمريكية.
قصة فيلم The Beguiled كتبها في الأصل توماس كولينان بالعنوان ذاته، وقدمها للسينما أول مرة المخرج دون سيغل عام 1971
تتكئ مفاتيح حكاية فيلم "The Beguiled" في أساسها على مصير جندي ايرلندي كان يقاتل إلى جانب الاتحاديين في الحرب الأهلية الأمريكية، للدقة عام 1864 عندما كانت الحرب في المراحل الأولى لنهايتها.. إذن؛ تستند القصة لمصير الجندي الذي أصيب بقدمه في إحدى المعارك لتنجده فتاة صغيرة تقيم في مزرعة أو قصر تحول مع بدايات الحرب إلى مدرسة داخلية للبنات في فرجينيا.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Imitation Game".. أن تعيش متنكرًا لميولك ليس حلًا
القصة التي كتبها في الأصل توماس كولينان بالعنوان ذاته، وقدمها للسينما لأول مرة المخرج دون سيغل من بطولة كلينت إيستوود عام 1971، لم تخرج حينها عن مفاصل السرد التي اختارها كاتبها الأصلي، واختصارها أن الجندي الاتحادي يبدأ التلاعب بالفتيات المقيمات داخل المدرسة محاولًا استغلالهن حتى لا يقع أسيرًا بيد الجنوبيين.
في هذه النسخة من فيلم "The Beguiled" يبرز الجندي كمحرك رئيسي لمسار الفيلم، لكنه مع النهاية تنتقم منه مديرة المدرسة ببتر ساقه كحكم نهائي على ألاعيبه. أما القصة التي أعادت كتابتها صوفيا كوبولا فإنها منحت المتفرج حكايًة مختلفة رغم أنها بقيت في الجو العام للقصة الأصلية.
فالجندي الذي لعب دوره كولن فاريل (العريف ماكبرني) عندما يصل للمدرسة يكون فاقدًا الوعي بسبب إصابته في قدمه، وتتم معالجته من قبل مديرة المدرسة نيكول كيدمان (الآنسة مارتا)، وتساعدها الجميلة البرجوازية، ومعلمة اللغة الفرنسية كريستين دانست (إدونيا) في عملية العلاج، إلا أن الفتيات الست مع مارتا كنّ يتملكهنّ شعور مختلف حول الزائر الجديد الذي كسر مسار أيامهم الرتيبة داخل المنزل.
يدخل الجميع في صراع تنافسي حول الفوز بالجندي الذي لم يكن قد صحى من حالة الإغماء، حتى مارتا التي حاولت أن تكون صارمة مع الفتيات، عاشت في صراع داخلي لكنها لم تذهب بالبعيد مع غرائزها الجسدية، بدت واضحة على ملامحها، واحدة منها رجفتها أثناء ملامستها للجزء العلوي من فخذه حين كانت تنظف جسده بعد خياطة الجرح.
تتكئ مفاتيح حكاية فيلم "The Beguiled" في أساسها على مصير جندي ايرلندي كان يقاتل إلى جانب الاتحاديين في الحرب الأهلية الأمريكية
صوفيا كوبولا التي حصدت عن هذا الشريط جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي لهذا العام، لتكون ثاني امرأة تفوز بالجائزة بعد المخرجة السوفيتية يوليا سولنتسيفا عام 1961، تجنّبت التطرق لكثير من مفاصل الحرب الأهلية التي حضرت على الهامش في الأحاديث بين الشخصيات، أو بمرور مجموعة من الجنود، وهي لم تحدد أن الرجل الذي لديهم مرتزقًا، إنما حضرت الفكرة كتساؤل حول هويته إن كان جنديًا أو يقاتل لأجل المال.
ففيلم "The Beguiled"الذي تم تصويره بمشاهد داخل المنزل أو في محيط مزرعته الخارجية لم يقدم لنا صورًا عما يدور بعيدًا عن أسواره إلا من خلال الدخان المتصاعد في البعيد بين أشجار السرو، وصوت المدفعية أحيانًا، أما عدا ذلك فإن الحرب لم تكن حاضرة بمعناها الحقيقي.
تترك صوفيا كوبولا الصراع يرتفع مع الجندي بشكل تدريجي، لكنه يبدأ بالفعل منذ محاولته إغواء إدونيا، وظهور الشابة إيلي فانينج (إليشا) التي تحاول إغراءه أيضًا، فهي تترك الصراع بين السيدات الناضجات يأخذ منحى داخليًا أكثر من الظاهر، بينما يحاول ماكبرني التلاعب بهنّ، يختصر كل ذلك بمشهد ما بعد العشاء عندما يذهب به المقام لإغواء الثلاثي: مارتا.. إدونيا.. إليشا.
عندما كانت الفتيات يناقشن مصير الجندي المصاب في بداية الشريط، قالت مارتا بنبرة حازمة: "لن يتواجد هنا بما يكفي حتى يشكل اسمه فارقًا"، لكن التطورات اللاحقة لوجوده، وما أضفاه على المنزل من حياة جديدة جاءت عكس ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تعرف أنك تشاهد فيلمًا لدارين أرنوفسكي؟.. 5 علامات تؤكد لك ذلك
منذ أن بدأت جميع الفتيات بالتأنق، وارتداء أجمل ما لديهنّ من ثياب وحلي، أصبح هناك شعور بأنه سيبقى لفترة طويلة، ليس كنوعٍ من الحماية إنما لأجل كسر الحياة الرتيبة لدى الفتيات الوحيدات، معطيًا للناضجات منهنّ فرصًة للتفكير بغرائزهن، حضرت واضحة مع إدونيا التي استسلمت لنفسها رغم كل ما حصل.
إذ بعد أن تكتشف إدونيا تواجد ماكبرني داخل غرفة إليشا تقوم بدفعه من الدرج، وتبدأ قدمه المصابة بالنزيف لتقرر مارتا قطعها بسبب صعوبة علاجها، في النسخة التي قدمها دون سيغل تقوم مديرة المدرسة بقطع القدم انتقامًا، أما نسخة صوفيا كوبولا فيكون قطع مارتا لها سببه سوء تقدير طبي، وفي نهاية الأمر يقتل مسمومًا بالفطر بعد محاولته الاعتداء عليهنّ، في مشهد أخير بارد جدًا حين تجتمع النسوة على خياطة القماشة البيضاء التي لففنّ بها جسده.
أعادت صوفيا كوبولا في فيلم The Beguiled كتابة القصة لصالح الأنثى التي أظهرتها على أنها المتحكمة بمسار الأحداث
مع كل هذه الأناقة في القصة يبرز جانبٌ مهم في فيلم "The Beguiled" وكان في الأزياء التي أضفت على الشريط واقعًا أرستقراطيًا أكثر منه دينيًا لسيدات يقمنّ داخل مدرسةٍ، ويؤدينّ بشكل رتيب واجباتهنّ الدينية كاملًة، حيثُ يغيب اللباس الكنسي المعهود (الأسود مع غطاء الرأس) ليحضر بديلًا عنه الألوان البيضاء والزرقاء، مشكلًا لوحًة فنية بديعة مع المشاهد المأخوذة لهنّ حين كنّ يتجولنّ في الحديقة بين الأشجار والورود.
بهذا الجمال أعادت صوفيا كوبولا كتابة القصة لصالح الأنثى التي أظهرتها على أنها المتحكمة بمسار الأحداث، جنّبت شخصياتها الصراع بشكل فج، وأبقتها في سياقاتها الداخلية مع وجود مخططات لكل واحدة دون تصادم مباشر بينهنّ، وفي النهاية أظهرتهنّ متكاتفات في وجه الغريب الذي ظهر داخل مدرستهنّ فجأة.
اقرأ/ي أيضًا: