ابتسامة العشاق في الصورة تظهر الشكل فقط لكنها تخفي ما هو أعمق من الابتسامة بكثير. الصورة تكون مثالية، وربما تكون الابتسامة متكلفة بعض الشيء وتتطلب عناء رسمها على الوجهين العاشقين! لكن الكثير من الصور المثالية للعشاق تخفي ما هو أعمق وأشد قتامة خلفها. هكذا هي قصة عشاق فيلم "WindFall" للمخرج شارلي مكدويل، ومن تمثيل جيسي بليمونز وليلي كولينز وجايسون سيغيل.
فريق عمل فيلم "WindFall" لا يتجاوز 40 عاملًا. مكان واحد للتصوير. أربعة ممثلين. بساطة تجعل من الفيلم أقرب ما يكون إلى مسرحية
تتكشف حقيقة الشخصية الباطنية للإنسان أثناء مرورها في التجارب والمواقف. شخصيات فيلم "WindFall" الثلاث تتكشف دينامكياتها النفسية والثقافية والطبقية في موقف واحد يحدث في مكان واحد وزمان لا يتجاوز 36 ساعة. السارق والزوج والزوجة. كل واحد منهم له دوافعه الدفينة، أفكاره ورغباته وأحلامه. كل شخصية لها قصة ترويها. كل شخصية محملة بتعقيدات وتناقضات. وسرعان ما تطفو هذه التناقضات والأفكار والرغبات والأحلام إلى السطح لتصطدم ببعضها البعض. المستور يصبح معلومًا بالنسبة للشخصيات، لكن الكشف عن المستور يحمل معه عواقب وتبعات.
الفيلم نوع من السينما المستقلة التي أنتجت في أعقاب الحجر الصحي بسبب كورونا. فريق عمل لا يتجاوز 40 عاملًا. مكان واحد للتصوير لا غير. أربعة ممثلين. بساطة تجعل من الفيلم أقرب ما يكون إلى مسرحية. موسيقى جميلة (داني بينسي وساوندر جيوريانز) وبعض اللقطات الخارجية الجميلة. أداء جميل من الممثلين، خاصة جيسي بليمونز. فيلم صناعة بيتية، سيما أن ليلي كولينز هي زوجة تشارلي مكدويل، خصوصًا حين نعلم بأن الأربعة شاركوا في الإنتاج، وبأن الكتابة مشتركة بين مكدويل وجايسون وجاستين لادر وأندرو والكر. مدة الفيلم ساعة ونصف الساعة، ويعرض على منصة نتفليكس لهذا العام.
مجرى الحكاية
لا يشار إلى الشخصيات بالأسماء، بل بالألقاب. هناك السارق الذي يدخل إلى إحدى الفيلات الفخمة من أجل البحث عن بعض النقود. يشار إليه بلقب No Body أي "لا أحد". وأثناء تجواله في المنزل يفاجأ بقدوم أصحاب المنزل. إنه في ورطة. يحاول الهرب لكن دون جدوى. يضبط. وهناك الزوج المليونير ويعمل كمدير لشركات عدة، هو رجل ثري أبيض البشرة يصطحب زوجته لتمضية عطلة سويًا. وهناك الزوجة التي تعتاش من أموال زوجها وتدير بعض المشاريع الخيرية.
لكن هذه العطلة لا تسير على ما يرام بعدما كشف أمر السارق والذي يحاول بدوره الهروب منهما وتجنب إلقاء القبض عليه. لكن أيضًا تجري الرياح كما لا تشتهي السفن، فأثناء فراره يكتشف أن هناك عين إلكترونية معلقة على شجرة. إنها كاميرا. بات وجهه معروفًا وفعلته موثقة. فما العمل؟ يعود أدراجه إلى المنزل للبحث عن حلول ويقضي الساعات مع الزوج والزوجة ريثما تحل المسألة عبر اتفاق يعقد بين الثلاثة. يتضمن الاتفاق أن يدفع الزوج الثري للسارق نصف مليون دولار لقاء تركه وزوجته بسلام وأمان. وفي رحلة الانتظار هذه تبدأ الأقنعة بالتساقط لنشاهد الوجوه الحقيقية لكل شخصية.
ضريبة غير متوقعة
تشعر الزوجة بأنها عالقة وسط هذه العلاقة. الزوج يريد إنجاب طفل منها، لكنها في المقابل تتناول حبوب لمنع الحمل دون علمه. إنها في مأزق. تتخبط من داخلها. فهي لا تريد البقاء في هذه العلاقة ولا تريد حتى الإنجاب من زوجها، أو على الأقل فهي واقعة في حيرة من أمرها. مترددة. ربما تريد أن تكسب أكثر مما تخسر من هذه العلاقة. لكن ما السبيل إلى ذلك؟ الخسارة حتمية في حالة الانفصال عن الزوج الثري. سيما أن العلاقة باتت كالسجن بالنسبة لها، غير أنها لا تستطيع الفكاك منها لما تجنيه من مكاسب مالية وحياة مترفة.
في المقابل، يشير سلوك الزوج إلى كونه شخصًا متحكمًا بزوجته وبإطار العلاقة ككل. فهو يرغب بإنجاب طفل منها دون أن يدرك مدى رغبتها في ذلك، ودون أن يأخذ بالاعتبار ما يدور في رأسها من أفكار. ويخطط لمستقبلها بالقول "حين تنجبين سوف تبقين في المنزل وتعملين كاستشارية فقط لا غير". وحتى الأمور الجسدية يتدخل بها: الزوج لا يعجبه وشم "الوردة" على قدم زوجته فيطلب منها إزالتها. هي تنفذ رغباته. إنها مثقلة بالهموم والحيرة. القلق بدء يتآكلها من الداخل.
كل شخصية من الشخصيات دفعت ضريبة في حياتها. الزوجة كانت تدفع ضريبة الحصول على الحياة المترفة عبر تحمل العيش تحت كنف رحل لا تحبه. والزوج كان يدفع ضريبة ثرائه ومسؤوليته عن طرد الموظفين، عبر تحمل نتائج ومخاطر أفعال العبث بحياة الآخرين/الموظفين. والسارق كان يدفع ضريبة اندفاعه للحصول على المال السهل وعيش الحياة المترفة، وذلك عبر انغماسه في مأزق كبير كالسرقة وما ينتج عنها من ارتكاب جريمة قتل، ولو عن غبر قصد، وصولًا إلى السجن أو الموت.
كلهم ضحايا كلهم جلادون!
لكن لا تبدو ديناميكيات الضحية-الجلاد قادرة على تحليل الموقف. ولا حتى القواعد الثنائية كالخير والشر والأبيض والأسود. هناك استحالة في وضع دينامية وحيدة لشخصيات الفيلم. فالزوج يمكن أن يكون متنمرًا وحقيرًا وضحية في ذات الوقت، والزوجة يمكن أن تكون معنفة وشريرة وقاتلة في ذات الوقت، و"لا أحد" يمكن أن يكون سارقًا ومظلومًا وثائرًا في ذات الوقت. نحن أمام شخصيات إنسانية من لحم ودم بكل ما تحمله هذه الصفات من تناقضات وتعقيدات تحتمل الصواب والخطأ. وفيما تظل الأخلاق رهينة الموقف بكل شخصية على حدة متأثرة بالمكان والزمان والحدث، أي بالمعايير والعوامل التي تتفاعل بداخلها هذه الشخصيات.
من هنا يصبح الحكم المطلق على شخصيات الفيلم، أو التعاطف معهم، أمرًا في غاية الصعوبة (فيما عدا البستاني الذي لا ناقة له ولا جمل ويلقى حتفه). يمكن القول بأن موت البستاني بهذه الطريقة الحادة والشنيعة، كانت سببًا مساعدًا ومحفزًا للزوجة، ربما، كي ترتكب جريمتها بحق السارق وزوجها.
المال يتكلم!
ومهما بدت التصرفات بعيدة عن التأثر بالمال، غير أن الدوافع لا يمكن أن تبتعد عن محورية وجوهرية المال في تحريك الشخصيات الثلاث. السارق فتنه الرقم الكبير، وقبلها بساعات كان يبتسم لمبلغ خمسة آلاف دولار. الزوج متعجرف لامتلاكه المال وقد تحول إلى ذئب متوحش رأسمالي مدركًا أنه "لكي يكون هناك أغنياء يجب أن يكون هناك أغبياء وفقراء".
في فيلم "WindFall"، نحن أمام شخصيات إنسانية من لحم ودم بكل ما تحمله هذه الصفات من تناقضات وتعقيدات تحتمل الصواب والخطأ
والزوجة قانعة راضية بحالها بسبب المال، وحين واتتها الفرصة لم تتوانَ عن استغلالها. لكن الفيلم بكامله، وإن لم يصرح بذلك جهارًا، فإنه يدور حول الزوجة العالقة الحبيسة الضائعة في حياتها والتي تعصف بها الصراعات النفسية لتصل إلى ذروتها مع نهاية الفيلم غير المتوقعة.
إنه فيلم يترك المشاهد في حيرة من أمره. فما هي السيناريوهات الممكن تخيلها وحدوثها؟! هرب الزوجة مع المال والبدء في حياة جديدة؟ أم قيام الشرطة بالقبض عليها؟ وهل كان سلوك الزوج شنيعًا وبشعًا إلى هذه الدرجة كي يستأهل قتله؟ فما هو الدافع الحقيقي وراء فعلتها؟ الأرجح أن الزوجة حبكت المسألة واستنتجت إمكانية ما للتنصل من الجريمة والحصول على المال في نفس الوقت. فالحيرة والقلق نتجا بفعل التردد لدى الزوجة من الاستمرار في هذه العلاقة. وهذا ما يفسر نية الزوج إنجاب طفل منها، بينما تخفي هي عنه تناولها لحبوب منع الحمل!
تناقضات
الزوج يقول للسارق: أبعد يديك عن زوجتي. ثم وضع يده على كتفها وسألها "هل أنت بخير؟". ومن ثم يقول: لكن إذا كنت ستصوب المسدس إلى أحدنا، فيمكنك أن تصوبه إليّ". وفي مشهد أخر قال للسارق صارخًا: "كان من المفترض أن ألقي كلمة افتتاحية في نهاية الأسبوع، لكنني انسحبت في اللحظة الاخيرة. انسحبت كي أفاجئها. لقد بذلت جهودًا جبارة كي أعدل جدول أعمالي من أجلها". تقاطعه بالقول: "من أجلنا"، فيرد "نعم هذا ما قلته! من أجلنا. وقد فعلت ذلك بكل سرور كي نحظى ببعض الوقت بمفردنا".
الزوج متعجرف وسلوكه حاد أحيانًا. لكنه يريد إنجاب طفل منها مع العلم أن لديه خيارات وإمكانيات عديدة، لكنه اختارها. وحين يدخل إلى المنزل يشير إليه بتسمية "بيت الحب". ويوجه حديثه للسارق أيضًا "ما رأيك بالكف عن النظر إلى قدميّ زوجتي". فالتحليل القائل بأنه زوج غير جيد لا يستقيم مع المؤشرات التي يطرحها الفيلم في البداية.
لكن حتى التضحية تصل إلى مكان لا تعود معه منطقية إذا ما مست بالذات. فحين تتأزم الأمور تتبدل الأفكار. ونعلم أن الزوج لديه علاقة جنسية مع امرأة أخرى. تتكشف هذه المعلومة على مسمع الزوجة. ويهمس الزوج لزوجته "عليك التقرب منه يا عزيزتي. اجعليه يستلطفك". فالزوج يشجع زوجته على التقرب من السارق من أجل كسب وده أملًا بالخروج من الموقف سالمين. إن هذا آخر أمر تود المرأة سماعه من شريكها. لقد شعرت بالإهانة والصدمة من طلبه هذا. هذا الكلام نزل عليها كالصاعقة، لكن في الوقت ذاته فتح لها مجالات رحبة للتفكير وآفاق للخلاص وجعل التقرب من السارق خيارًا معقولًا بالنسبة لها.
مقايضة!
كل قرار في الحياة يتحمل المرء مسؤوليته. السارق قال لها "أتت لست ضحية، أنت قمت بمقايضة"، لكن هذه المقايضة جعلتها تخسر حريتها وحرية اتخاذها للقرارات والخيارات في حياتها. حياتها لم تعد لها. لكن هل يمكن للمرء أن يحصل على كل شيء! هذا بالتحديد ما كانت تبتغيه الزوجة. كان لديها فرصة للهرب لوحدها من الفيلا لكنها عادت أدراجها ولم تترك زوجها أسير السارق لوحده. فهل فعلت ذلك بدافع عاطفي أم لأن هروبها كان سيجعل منها خاسرة وسيتركها دون أي مكسب!
ويبدو أنها بدأت بالميل للوقوف إلى جانب السارق، ففي العديد من المواقف تعاطفت معه، وربما شكل لها السارق نافذة أمل جديدة. ولأنها أيضًا أرادت القيام بمقايضة أخرى مجددًا، ولكن هذه المرة بالتحالف مع السارق ضد زوجها وكسب المال في نفس الوقت. السارق والزوجة ينتميان إلى ذات الطبقة الفقيرة. ربما في هذا تعزية لها بعكس ما واجهته من صعاب في التكيف مع الحياة الأرستقراطية. يمكن القول بأنها تريد التحرر من العلاقة وهي من تمارس عملية الاستغلال لزوجها.
الخلاص
العينان والغربان في السماء. الموسيقى وحركات التوتر والقلق كلها تشي بالانتظار. هناك موت حاصل لا محالة. وإلا فكيف يمكن لهذه العقدة أن تنحل دون موت! الزوج كان يظن أن الخطر قادم من السارق. يقول لزوجته "نحن لا نعرف ما الذي ينوي فعله عندما يأخذ المال". فالزوج لم تخطر بباله ولم يحسب حساب بأن الخطر الداهم والقاتل سيكون على يد زوجته.
الزوجة قتلت السارق بواسطة منحوتة حجرية على شكل إنسان يلتف حوله أصابع أو أفاع فتأسره وتخنقه. المنحوتة تشبه حالها. لقد ارتكبت جريمتها بضرب السارق بالمنحوتة على رأسه. لقد تحررت لكن كلفها هذا التحرر دمًا. تنفست وخطت خطوة إلى الأمام. الأن صارت حياتها ملكها. لكن لماذا قتلت زوجها أيضًا؟ لماذا لم تكتف بقتل السارق ومتابعة حياتها مع زوجها. يمكن القول إن سجن السارق لم يكن ذا أثر كبير في نفسها مقارنة بالأثر الذي يخيم في نفسها بفعل القفص الزوجي الذي تعيش بداخله.
يترك فيلم "WindFall" المشاهد في حيرة من أمره. فما هي السيناريوهات الممكن تخيلها وحدوثها؟! هرب الزوجة مع المال والبدء في حياة جديدة؟ أم قيام الشرطة بالقبض عليها؟
تخاطب السارق بالقول "أنت رجل صالح، أنا أعرف ذلك. لا تقتلنا. لكن هناك خطوة لم تخطها بعد، وإن خطوتها، فلن تعود كما كنت". هذه الجملة كأنها كانت تقولها لنفسها وتتكلم مع مرآتها. كل ما قالته للسارق نفذته هي في الواقع. هي تحولت إلى امرأة غير صالحة وفقًا للقاعدة التي وضعتها. هي خطت هذه الخطوة.
حتى هروبها مع المال كان سيجعل منها سارقة. فهي تريد حلًا نهائيًا لحياتها. تريد الخلاص. يضاف الى ذلك أن هناك رجلان سيلاحقانها. راودتها فكرة الهرب حين لمست المال الكثير داخل الشنطة السوداء. كان بإمكانها أيضًا طلب النجدة فهي كانت قد وصلت إلى الطريق الخارجي. كانت حرة للحظات لكن أصابها البكم فلم تستطع الصراخ. إن مرادها يكمن في مكان أخر. هي تريد نهاية معقولة للقصة. تريد أن تكتب السيناريو الختامي كما تشتهي. تريد أن تصوغ الرواية كما يحلو لها وكما ترتضي.
تقول الزوجة للسارق "لقد كانت وردة". إنها تشير إلى الوشم على قدمها. يجيبها "أنا لا أبالي". لقد كانت هذه الجملة كالقشة التي قصمت ظهر البعير. فقدت الزوجة إيمانها بالرجال نهائيًا، وربما كانت تمني نفسها بالهرب مع السارق والمال! لكنها وجدت نفسها حبيسة في حياة الزوج وشخصيته المسيطرة، ووجدت نفسها مغفلة حين وثقت بالسارق ودافعت عنه، ووجدت نفسها حبيسة قوى رجلين في مكان محدد فلجأت إلى القتل. وبات الموقف كالتالي بالنسبة لها؛ أكون أو لا أكون. وجودها يحتم عليها قتل زوجها والسارق. السارق لعدم اكتراثه لها وإفشاء سرها، وزوجها لأنها تعلم علم اليقين بأنه سيهجرها على قارعة الطريق في اليوم التالي.