يظن التشكيليون أن الأصل الذي يرسمونه أو ينحتونه، هو كائن كامل. ويجهدون غالبًا لمحاكاته. أن ترسم وجهًا فأنت تبذل كل جهدك ليشبه وجه الكائن الحي الذي أخذت عنه هذه الملامح. وهو كائن كامل، لأن صورته الناقصة، التي هي اللوحة أو المنحوتة، تستطيع أن تثير المشاهد أو تربكه، وقد توقعه في الحب. أفروديت المنحوتة هي صورة لكائن كامل. وقد اكتسب تمام كماله من واقع أن منحوتة تشبه هذا الكائن تنتصب أمام أعين الناس بلا أخطاء.
أفروديت المنحوتة هي صورة لكائن كامل. وقد اكتسب تمام كماله من واقع أن منحوتة تشبه هذا الكائن تنتصب أمام أعين الناس بلا أخطاء
ثم إن الكائن الحي يكون ناقصًا لأننا لم نتأمله جيدًا. الرسم يحتاج منا أن نتأمل مطولًا بالوجوه والأجسام وأشكال الكائنات ومنظر الأشياء. وحين يُرسم الأصل يكون قد اُشبع نظرًا وتأملًا من قبل. وهذا ما يجعله أصلًا نقيًا بلا شوائب. بمعنى أن اليد التي يرسمها الرسام هي نموذج اليد إلى أن يؤكد رسام آخر وجود نموذج آخر. ووجود الأخير لا ينتقص من كمال الأول وثباته، والثبات هو صفة الكمال الأصفى والأدق.
اقرأ/ي أيضًا: معرض "ممنوع التهذيب".. ترنيمة للحرية
سمعان خوام السوري البيروتي ليس رسامًا ولا نحاتًا. إنه كائن مختلف. يرسم وينحت ما يناقض الأصل ويخالفه. وهو بهذا الإمعان المعاند يكاد يشبه أما لأبناء كثر. حيوانات وأغراض وكائنات. ينجبهم في غرفته أو محترفه. ثم يعيش معهم. ليسوا كائنات مألوفة، لكنهم يجهدون في أن يسلكوا مسالك البشر والحيوانات والطيور والأشجار. ينامون، ويجلسون ويخلعون أثوابهم ضجرًا، أو حنقًا، ويشربون ويأكلون ويفعلون كل ما تفعله الكائنات الحية، لمجرد الرغبة بالتشبه بها حينا، والأمل في الابتعاد عن مسالكها دائمًا وأبدًا.
كائنات سمعان خوام، ليست أليفة. إنما ما هي الألفة حقًا؟ هل الذئب الذي لا يصطاد ولا يعض هو ذئب أليف أم غريب؟ هل الرجل الذي يشرب قهوته على الناصية بهدوء هو الأليف أم يكون الأليف هو القاتل الذي أنهى جريمته للتو وها هو بكل هدوء يحتسي قهوته على الناصية؟ وإذا كان الأليف هو الهادئ المسالم، فمن أين تنزف كل هذه الدماء؟
الألفة بهذا المعنى ليست إطنابًا. وكائنات سمعات خوام ليست أليفة، لكن العيش معها في غرفة واحدة لا يؤدي إلى معركة ونزف دماء. إنها برية بالقدر الذي يظهر عليه كل ما هو متوحش ومتفرد، وقادرة على التعايش مع كل ما هو مختلف ومتفرد وغريب من دون أن يقتل بعضهم بعضًا.
سمعان خوام ليس رسامًا ولا نحاتًا. إنه كائن مختلف. يرسم وينحت ما يناقض الأصل ويخالفه. وهو بهذا الإمعان المعاند يكاد يشبه أما لأبناء كثر
اقرأ/ي أيضًا: خلف كتلة المدينة
ينحت سمعان خوام رؤوس طيور تشبه أكثر ما تشبه أقنعة أطباء القرون الماضية. غرباء إلى الحد الذي يسمح للرجال أن يطلبوا منهم الكشف على نسائهم من دون حرج. على ما كانت عليه حال الأطباء اليهود في البندقية. الذين عانوا من تحسس مسيحيي ذلك الزمن من كشفهم على أجسام نسائهم المريضات، لأنهم من طائفة أخرى، فألبسوا أقنعة تبعدهم عن طائفتهم وطائفة المكشوف عليهن ليصبحوا متوحشين ومتفردين، كي يأمن لهم من يمجدون الألفة ويعيشون في كنفها.
لكن السؤال الذي يبقى محيرًا في أعمال خوام قد يكون التالي: هل ينجب سمعان خوام كائناته لتعيش معنا أم لتعيش معه؟ وإذا كان إنجابه لها يهدف لأن يعيش معها، وهذا الأرجح في طني، فلماذا ما زال هذا الرجل المتوحد والمتفرد يخرج إلى الناس؟ بل قد يكون السؤال الأدق: هل ما زال سمعان خوام يخرج إلى الناس مطمئنا أنه سيعود إلى غرفته؟ أم أنه منذ زمن بات يعرف أن الخارج دار حرب، لا حوار فيها ولا تضامن، وأن المعقل الأخير لهذا الكائن المسالم لا يتعدى حدود غرفته حيث تصطخب كائناته المتوحشة بسلام من حوله لتؤكد له أن شرط العنف ليس ملزمًا للكينونة؟
سمعان خوام شاعر وفنان تشكيلي سوري - لبناني. صدرت له مجموعتان شعريتان: "مملكة الصراصير" و"دليل المهرج". وأقام عددا من المعارض الفنية الفردية والجماعية. بعض أعماله تعرض حاليًا في غاليري موجو ببيروت ويستمر المعرض حتى الخامس والعشرين من الجاري.
اقرأ/ي أيضًا: