الميراث الإسلاميّ في أندلس اليوم في غالبيته ميراث مدجّن، تتداخل فيه عوامل إسلامية ومسيحية، باستثناءات قليلة كقصر الحمراء في غرناطة، ولهذا فإنّ البحث عن عمارة عربية أصليّة أمر من المحال، نظرًا لتقلبات التاريخ الأندلسي في صراعات بين الممالك العربية نفسها من جهة، وبينها وبين الممالك المسيحية من جهة أخرى، الأمر الذي انعكس على تدمير أو إهمال أو اختفاء الكثير من المباني والقلاع والقصور والمنازل والأسواق والحمّامات، كما تحوّلت أخرى إلى أن تكون خليطًا يصعب الحديث معه عن نسب واضح، إلا أنه يمكن اعتبار العنصر العربيّ – الإسلاميّ حاضرًا كواحد من مكوّنات أخرى، دون أن يكون صاحب الحضور الكامل والمتفرّد.
خلال زيارة الأندلس، سترى كيف تتسرّب بعض الإشارات إلى الفهم الرسمي الإقصائي للهوية الإسبانية
على أنّ توافد الزوّار الهائل إلى هذه البقعة من العالم إنما يجري أساسًا لرغبتهم في أن يحظوا بمشاهدة حيّة للتراث العربيّ الذي يمنح الجنوب الإسبانيّ نوعًا من الفرادة، كون الميراث المسيحي القروسطيّ متوفّرًا بكثرة في مختلف مدن أوروبا، في روما وبراغ وكولونيا وغيرها.
اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين (4): خزانة أخبار الأندلس
ثمة أمرٌ لافتٌ في سياق تقديم الإسبان للمعالم الأندلسية بشكل عام، حيث تتسرّب من الأدلاء السياحيين أو أجهزة الدليل الصوتي (audio guid) إشارات إلى الفهم الرسمي للهوية الإسبانية، لا يمكن إلا أن تؤخذ بعين الاعتبار، خصوصًا بما يتعلّق بثقافة الدولة المسيحية الكاثوليكية. ففي قصر المُورِّق، مقرّ حكم بني عبّاد في إشبيلية، أكبر الممالك العربية زمنَ الطوائف، يُقدّم إلينا الجانب العربيّ منه كتفصيل هامشيّ على متن حياة الملك القشتالي بيدرو، الذي أعاد بناء القصر بعد زواله. لا يجري الحديث عن المعتمد بن عبّاد إلّا في قاعة وحيدة بوصفها مكان إدارته، فيما يعاد الحديث مرارًا وتكرارًا عن تنقلات إقامة الملك القشتالي في أنحاء القصر بين الصيف والشتاء. ليس القصر (الكازار بالتعبير الإسباني) قصر بني عبّاد، إنما هو قصر آخر شُيِّد في الموقع نفسه، لكنّ تسويقه السياحي يأتي بطريقة ملتبسة تجعلك تظنه القصر الأساسي، وما حدث له مجرد تغييرات فقط.
في رُندة، هناك تركيز على الطبيعة الجبليّة التي تجذب الزوّار، لكنّ الجانب العربي غائب أيضًا، فاسم المدينة الذي يذكّر على الفور بالشاعر أبي البقاء الرُّنديّ، صاحب النونيّة التي باتت تسمّى رثاء الأندلس، وعلى الرغم من أنه كتب كثيرًا غيرها إلا أن اسمه ارتبط بها، فإنك إن بحثت عنه فلن تجد أثرًا، وبعد عناء ستعرف أنّهم سمّوا الساحة الرئيسية في المدينة القديمة باسمه، لتجد أنك طوال الوقت كنت تمرّ منها دون أن تتبيّن ذلك، فاسمه مكتوب بحروف لاتينية "Abul Beka" من دون شرح أو تفصيل.
في الدليل السياحي الذي أحمله معي، هناك نصيحة بزيارة مدينة أنتيكيرا، خصوصًا حصنها (القصبة). تتبع هذه النصيحة وتمضي إلى المدينة التي كانت جزءًا من مملكة غرناطة، متخذةً لنفسها مهمة دفاعية ساهمت في صمود المملكة لمئتي عام، وعُدَّ سقوطها نقطة هامة في سياق "حرب الاسترداد" (المفهوم المسيحي الكاثوليكي لإخراج العرب من شبه الجزيرة الإيبيرية)، حيث انقلبت وظيفتها من الدفاع عن غرناطة إلى الهجوم عليها.
في قصبة المدينة، يناولونك على الباب دليلًا صوتيًّا (audio guid)، تتفاجأ بأنه يتحدّث سبع لغات ليست العربية بينها، وهو أمر يتكرّر في قصور أخرى، رغم وفرة السوّاح القادمين من العالم العربي، وعلى الرغم من أنّ النشرات السياحية تقدّم المكان كمكان عربي. المفاجأة أن الدليل يبدأ بالحديث عن المدينة منذ سقوطها تحت حكم قشتالة، وكأنّ هذا تاريخ ميلادها، ثم يغيب الصوت النسائي الذي يسرد المعلومات التاريخية، ليظهر صوت رجولي عميق يقول معرّفًا عن نفسه بأنه الملك فرديناند.
يسرد الملك رؤيته للتاريخ والمكان، وخلال عودة الشرح الأنثوي العام، بعد الشهادة الملكية الوحيدة على الحدث، ستتفاجأ في كل مرة يعود فيها صوت الملك بأنه يخاطب المستمعين بقوله "جنتلمِن"، أي أنه يخاطب الرجال. ربما هي الطريقة الأصلية لخطاب الملوك في العصور الخوالي، لكن بما أن استحضاره يجري في زمن تالٍ ألا يستوجب ذلك أن يتحدّث بطريقتنا الراهنة، خصوصًا أن الملك الإسباني يحدثّنا باللغة الإنجليزية، وسيتحدث باليابانية مع السائح الياباني؟ ألم يخطر في بال إدارة المكان أن تكون حاملة الدليل امرأة؟
المشهد العجيب الذي يرسم نفسه: رجل مسيحي أبيض يخاطب رجالًا مسيحيين بيضًا.
في أنتيكيرا، تواجه رواية منتصر وقح، فمع أنك تزور المكان بدافع ثقافيّ، ولديك الاستعداد الكامل للاستماع إلى مختلف وجهات النظر حول تاريخه، إلا أنك لن تتوقّع أن يطلع عليك صوت ملك! لا يختلف هذا عما فعلته الدليلة التي قادتنا في أوابد مدينة الزهراء، حين قالت في سياق شرح حروب الممالك الإسلامية مع الممالك المسيحية، "لكننا انتصرنا".
تبدو حرب الاسترداد محورًا يريد السياسيون التقليديون أن تقف عليه إسبانيا الكاثوليكية الأوروبية
لا تدخل المطبوعات والكتب في هذا الخطاب، لكنّ غياب الشرح بالإنجليزية للكثير من الأبنية والتماثيل والساحات، كما نجده في مختلف الأماكن ذات الطابع التاريخي حول العالم؛ يجعلك تشعر أنَّ المكان يخاطب الإسبان بشكلٍ أساسي، لتأتي الأدلة الصوتية كي تؤكّد على هذا التوجه الذي يبدو أنه رسميّ.
اقرأ/ي أيضًا: 5 أعمال من المكتبة الروائية الأندلسية
مخاطبة الإسبان، أو المخاطبة بمنطق إسباني، تجعل التعريف بالأندلس يدخل في سياق الهوية الإسبانية المأزومة، حيث تغدو رواية حرب الاسترداد أقرب ما تكون إلى سردية وطنية، بما يعيد البلاد إلى منطق التوحّد الذي بات مهدّدًا بالانقسام اليوم، لا سيما في ظل وجود أقاليم تطالب بالانفصال. فحرب الاسترداد التي أخذت وهجها بعد توحّد مملكتي قشتالة وأراغون والانتصار الذي حقّقته، يمكن أن تكون المحور الذي يريد السياسيون التقليديون أن تقف عليه إسبانيا الكاثوليكية الأوروبية. يعزّز هذا الرأي أن العلم الإسباني يرفرف بشكل لافت على شرفات البيوت، إلى درجة أنك تتساءل في البداية: هل هناك بطولة في كرة القدم؟ لتعود وتفهم الأمر في سياق آخر، يتصل بأحداث إقليم كتالونيا، وفي السياسة الثقافية السياحية.
اقرأ/ي أيضًا: