لحظة رؤية الله، لحظة الوقوع في الحب، لحظة إمساك طفلك بإصبعك للمرة الأولى، لحظة الحصول على الراتب الأول، لحظة رؤية نتيجتك في التوجيهي، لحظة خروج ابنتك من بيتك إلى بيت زوجها، لحظة تسجيل سيرجيو راموس لهدف التعادل (الفوز) نهائي دوري أبطال أوروبا، لحظة ارتكابك للحادث الأول في سيارتك، لحظة إدراكك لحقيقة أن من تحبهم سيموتون بغض النظر عن رأيك في الموضوع، لحظة معرفتك بإصابتك بالسرطان، هذه اللحظات كلها يصح عليها اسم اللحظة الفارقة، وهي لحظات غاية في الأهمية في حياة الإنسان، لكن ربما تكون لحظة التعرف على الذات هي اللحظة الأهم في حياة أحدنا، اللحظة التي نفهم عندها كل التصرفات غير المبررة التي سبق وصدرت عنّا في سنين حياتنا السابقة، نفهم لم وقعنا في الحب تلك المرة، ولم قررنا الانفصال في تلك المرة، نفهم أنفسنا أفضل مما يستطيع كتاب أن يشرح لنا.
العلاقات البشرية في الكثير منها قائمة على تضخم الأنا الفردية والجماعية، وبالتالي يحاول كلٌ منّا أن يثبت أهليّته
من الممكن الحديث مطولًا حول رواية "الجريمة والعقاب" للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، ومن الممكن أن نتحدث أكثر حول الأسباب التي لأجلها يرى محبو دوستويفسكي أن هذه الرواية هي قمة أعمال الرجل، وأنها يمكن له أن تحتل بسهولة مكانًا متقدمًا على سلّم أفضل الرويات العالمية، لكن السبب الذي أؤمن به، وأظنه مبررًا لتفضيلي لهذه الرواية على كل ما قرأت وسأقرأ من الأدب، وكتب التحليل النفسي، أن هذه الرواية تقودنا، وعلى خلاف ما تفعل كتب أخرى، نحو الذات لمساءلتها.
اقرأ/ي أيضًا: بندكت أندرسن و"جماعاته المتخيلة"
في هذه الرواية سؤال مركزي في غاية الأهمية، والإجابة عليه غاية في الصعوبة، وهذا السؤال هو: لم أقوم أنا كشخص بفعل ما أفعله؟ الصعب في هذا السؤال هو أنه يتطلب من أحدنا صراحة مع الذات خارقة، ويتطلب منّا أن نعترف بالجزء الشيطاني في ذواتنا، وهو الجزء الذي يطيب لنا في كثيرٍ من الأحيان أن نتغافل عن وجوده، لماذا؟ ربما لأن العلاقات البشرية في الكثير منها قائمة على تضخم الأنا الفردية والجماعية، وبالتالي يحاول كلٌ منّا أن يثبت أهليّته، وأن يظهر الجانب (العظيم) منه، وعوضًا عن الاستماع للآخرين نقرر انتظار دورنا في الكلام، أو حتى انتزاعه.
لحظة التعرّف على الذات، ولحظة سؤال النفس الأسئلة المركزية، لحظتان إحداهما ناتجة عن الأخرى، وتكتسب هاتان اللحظتان أهمية قصوى، كالبلوغ مثلًا، في حياة أيٍ منا، لكن هاتين اللحظتين تصبحان أكثر أهمية في حياة المثقف، لأنها اللحظة التي يدرك فيها حجم الزيف الذي يعيش فيه. هذه اللحظة هي اللحظة التي يعرف فيها أنه، وعلى غير ما يعتقد، يعيش في فقاعة، يمكن الدخول إليها، ولا يمكن غالبًا الخروج منها.
رغم أن الإنسان في غالب الأحوال يكوّن عبر حياته دائرة أمان، أو فقاعة، تشبهه ويشببها، ولا يحلم في الخروج منها غالبًا إلّا نحو طبقة أعلى في المجتمع يكوّن فيها فقاعة جديدة، إلّا أن الأمر مختلف بعض الشيء في حالة المثقف، والمثقف الذي أتحدث عنه هنا هو المثقف العضوي الذي ربما أطلق عليه اسمه الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، إذ إن خيال المثقف الخصب يوحي له بأنه، ومع أنه يعيش في أوساط تشبهه معظم الوقت، أوساط مرتاحة مادية، مؤمنة وظيفيًا، آمنة اجتماعيًا، إلّا أنه يحب الاعتقاد بأنه ينتمي إلى طبقة الأقل حظًا، طبقة من لا يملكون، وأنه في حاله هذه ينتمي إلى الجموع التي يشرّف الانتماء إليها، إلى المسحوقين لا إلى المستغلين. وكأن في باله أنه إنما يعبر عبر ما ينجز (رسمًا، نحتًا، غناء، كتابة.. إلخ إلخ) عن آمال الفقراء، وعن طموحات المغلوبين على أمرهم، يعبّر عنهم، لأنه جزء منهم، ولأنه يمتلك الأدوات اللازمة لفعل هذا التعبير، ولأنه يمتلك ما يلزم كي يقوم، كالأنبياء، بالتبشير بالتغيير القادم لا محالة، ويحشّد طاقات هذه الطبقة نحو ذلك التغيير، نحو صنعه ومن ثم إدارته.
لحظة التعرّف على الذات، ولحظة سؤال النفس الأسئلة المركزية، لحظتان إحداهما ناتجة عن الأخرى
هكذا يحلم المثقف، لكنه يكبر، ويقرأ أكثر، ويطرح على نفسه سؤال هل أنتمي فعلًا إلى تلك الفئة التي أدّعي الانتماء إليها؟ يطرح على نفسه هذا السؤال ربما عقب فشله في فتح حوار مع سائق التاكسي، أو عقب حلم داهمه ذات نوم، أو عقب عجزه عن رقص الدبكة في عرس شقيقه، أو عقب عجزه عن معرفة إن كان الجبل الأخضر في عمّان أم في مدينة أخرى، أو ربما عقب إلقاء والدته لقنبلة الحقيقة على رأسه مخبرة إياه أنه إنما يعيش في عالم آخر غير الذي يعيش فيه بقية البشر.
اقرأ/ي أيضًا: حنة آرندت.. فيلسوفة تفكيك الشمولية
عقب لحظة الكشف هذه، يترنّح صاحبنا بعض الشيء، يفقد توزانه عددًا من الأيام، يتوقف عن الذهاب إلى عمله، لا يجيب على هاتفه، يشعر بأن هويته التي كان يظنها صلبة قوية تحوّلت ماء.
يستيقظ صاحبنا من حالة السكر هذه سريعًا، عاقدًا العزم على أن يصوّب المسار، وعلى أن يعود إلى حيث يشعر بذاته ذاتًا حقيقيّة، منتمية إلى حيث يجب، متصالحة مع شعبها راديكالية مع السلطة ورأس المال، فيغيّر مكان سكنه، ويبدأ بالتفكير في تقديم استقالته، ويعود إلى صفحته على فيسبوك، أو إلى دفتر العناوين في هاتفه، ليبحث عن أصدقائه القدامى، عن رفاق التسكع في الأحياء المنزوية من المدينة، فيجد أن بعضهم قد هاجروا نحو الخليج خلف لقمة سوية، وأن بعضهم صاروا مقاتلين في سوريا، وأن آخرين قد باتوا نسخة طبق الأصل عن آبائهم وأبيه؛ كروش بارزة، وسيارة منتهية الصلاحية تستعمل في العطل كسيارة أجرة، و"عرّ" أطفال يجرّون في الزيارات والأعياد.
يتعالى صديقنا المثقف على نفسه وترددها، ويقرر أن هذا الوضع طبيعي وأن الاختلافات الحاصلة مردّها الزمن، وأن عليه أن يعايش هؤلاء الأصدقاء، وأن يصل ما انقطع من العلاقات، وأن يفعل ما تمليه عليه واجباته الثورية من اختلاط بالجماهير واتصال بها، فيجلس خلافًا للعادة مع "الفحمجي" في مقهاه المفضل، ويخوض نقاشًا حامي الوطيس حول الانتخابات الأمريكية مع سائق التاكسي، ويقف مطوّلًا مع بائع الكعك الذي يقف أمام الشركة، ويتفهّم سرقة المواسرجي له.
يصل مثقفنا الهمام إلى أنه لا يمكن له امتلاك قدرة التعبير عن هؤلاء الذين يتمنى الانتماء إليهم والتعبير عنهم
لكن، وبعد تكرّر حالات الفشل، وبعد عجزه عن تكوين علاقات حقيقيّة مع هؤلاء، بعد فشله في اكتساب ثقتهم، في الدخول إلى شللهم، بعد إصرار لغته الإنجليزية على الدخول في جمله، وفي ظل عجزه عن فهم كلمات مثل (شمّست، والظمون، وخالي قص قلبان)، وفي ظل إصرار مرافقيه على أن كلمات كـ(إيديولوجيا، وتعددية، وحداثة) تنتمي إلى التلفزيون وبرنامج "الاتجاه المعاكس" لا إلى أحاديث الشارع، وبعد تأكده من أنه عبر إصراره على "الاندماج" إنما يضحك ذاته عليه، ويضحك عليه كذلك كشّيش الحمام والعامل في مصنع الدهان وموظف البنك، فلغته، صوته، هيئته، تسريحة شعره، نوع دخّانه، ماكينة حلاقته، ماركة حذائه، عناوين كتبه، أفلامه المفضلة، ناديه المحبب، همومه، مخاوفه، آلامه، ومعارفه كل هذه لا تشبه في شيءٍ ما لدى هؤلاء الذين يزعم الانتماء إليهم.
اقرأ/ي أيضًا: جمهورية فيصل القاسم
في النهاية يصل مثقفنا الهمام إلى قناعة مفادها أنه لا يمكن له اليوم، ولا غدًا، امتلاك القدرة على التعبير عن هؤلاء الذين يتمنى الانتماء إليهم والتعبير عنهم، فيلجأ إلى واحد من خيارات، لا تمنحه راحة الضمير، ولا القدرة على النوم الهانئ الذي يتمنى، لكنها على الأقل تمنحه القدرة على المواصلة.
فريق من هؤلاء المثقفين يختار أن يتخلّى عن عضويّته، وأن يمضي في الطريق إلى منتهاه، فيعرّص للسلطة وينتمي إليها ويصبح حذاءً في قدمها تسير به إلى حيث شاءت، ويدافع عنها مهما أخطأت، وفريق آخر يختار مواصلة الانعزال، فيبتعد عن الشأن العام ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وبين حين وآخر يشارك في مظاهرة ما، ويكتب في مواقع لا تقرأ عن أثر ما بعد الكولونيالية على الثقافة المحلّية، وفريق آخر يقرر أن ينتج أعمالًا تعبّر عما يعتقد أنها معاناة الطبقات الأقل حظًا، ولذا فإنه يقوم باجترار كل المواقف البائسة التي تعرّض لها في حياته؛ يتذكر أستاذ المدرسة الذي تحرّش به في حصة الرياضة، ويتذكر المرّة التي نام فيها وعائلته في مستودع أحذية، ويتذكر الفتاة التي رفضت شقيقه، رغم حبها له، لأن هذا الشقيق لن يمتلك في يوم من الأيام بيتًا لائقًا.
يقوم بتذكر هذه القصص وغيرها، يعيد عليها ويزيد، يسعفه خياله وتنقذه الروايات التي قرأ، فيكتب أعمالًا فيها الكثير من الكلام عن الجوع والفقر والبؤس والمهانة، وربما يكون خياله خصبًا وكتابته جيدة، فينجح في وصف شيء مما تذكر، وشيء مما يحصل حقًا، ويواصل العيش في قوقعته، وبين الحين والآخر يزور أهله في المخيّم، ويستمع إلى القصص التي ترويها أمّه عن الحارة، ويختار منها ما سيستعمله في أعماله القادمة.
اقرأ/ي أيضًا: