دمشق/ ركن الدين – شتاء 2013.
أمي البعيدة عن قلبي وعن الطريق، تفصلنا المسافة ويفصلنا الحنين وأتساءلُ أحيانا كابن عاق، لمَ لا أشتاقكِ كما ينبغي لابنٍ بار حيالَ أمّه.
العقوق، مع أنّني نعتُّ نفسي بالعاقّ، لكنّي لا أعرفُ بالضبط ما معنى هذا الشعور خارج اللغة، لأنّني لم أجرّب البرّ أيضا معكِ!
أتساءلُ الآنَ بأسئلة كهذه وكأن الحنين يلفحني، لكنّه ليس حنينًا وشوقًا إليكِ بالضبط؛ أي أنّها ليست مشاعرَ صافية تمامًا، ولكن بمن أتوجّه بهذا الخطاب إن كنتِ لا تجيدين القراءة ولا الإصغاء إليّ كما ينبغي لقارئ حصيف.
يا ترى بمَ تهجسين هذه اللحظة؟! هل تفكرين بي؟
هل تفكّرين بي كلّ يومٍ أو كلّ شهر، أو كلّما أذاع التلفاز الذعرَ في شريطه العجول؟!
لقد عودتكِ على نسياني فهل نجحتُ في ذلكَ؟!
يا ترى كم من الوقتِ أمرّ في خاطركِ، يا ترى كم دمعة ستكون حصتي من الدموع في عينيكِ اللتين لم أجرّب النظر إليهما كما ينبغي لابن بارّ، لا ولم أجرّبهما كابن عاقٍ أيضًا.
كم أخجلُ الآنَ وأنا أكتبُ ما أكتبُ، لأنّ أعينَ الحصيفين من قرّائي ستأكلُني عتبًا.
في العشوائيات - حيثُ أسكنُ - تُصبح المشاعر أيضًا مبعثرة كالبيوت، آخذةً الشكل والمضمون، قد يعني ذلك أنّ من يعيشون في التنظيم أكثر اتزانًا، ربما! لا سماءَ حيثُ أسكنُ ولا شمس ولا قمر، لكن ثمة أصوات؛ مواء القطط، صوت جارنا الصغير، صوت معارك الجيران الدونكيشوتية، وهسيسًا شبقًا أحيانًا، وجدرااااااااااااااااااااااااانٌ.
إن سألتني كم جدارًا يحيط بك، ربما سأدوخُ.
أمي، إن كان ثمة حاسّة سادسة تلتقط الحنين، فدعيني الليلة أزوركِ في حلمكِ، كابن بارٍّ هذه المرة، طالما لم أجرّب نفسي كابن عاقٍّ أيضًا.
قامشلي/ شتاء 2018، الخامسة فجرًا
الآن لا داعي للأسئلة التي خبِرتُ أجوبتها كطالب اجتاز الامتحان بدرجة "جيد"، إذن لا داعي من سرد أجوبتها من جديد.
الآن وبعد مضيّ أربعين يومًا على غيابكِ، أستحضر ذاكرتي التي تحتفظ بجلّ صورك كفيلم قديم لكاميرا عتيقة، العفوية ذاتها، وكأنّني أكمِن للضوء في الأمسيات، ألتقط صوركِ، واحدةً.. واحدة وهي تمرّ في خاطري.
صورة أولى: قفطانكِ يتدلّى هبوطًا وعلوًّا مع مِدَقّ الحنطة، يهبط ويعلو في رتم واحد دونما توقّف.
"لم طردت العصافير يا أمّاه؟ لم طردت الدجاج من حولك وأنت تدقّين في رتم واحد دونما توقّف؟".
صورة ثانية: تعجنين بخفّة في طست بافون إلى حدّ الإنهاك، ثمّ بعد ذلك ترسمين بيديكِ صليبًا على العجين، "هل تذكرين ذلك يا أمّاه؟". قبل عام من الآن أخبرتكِ عن ذلك، فهززت برأسكِ، وكأنّك تقولين: "ما لي وخرافاتكَ، أنا كنتُ أعجن وحسب".
صورة أخيرة: قبيل مغيبكِ بأيّام، قال أحدهم، إنّ من يعيشون أيّامهم الأخيرة على فراش المرض، لا يستسلمون للموت، لأنّهم يترقّبون خطى الغائبين، عسى عودة. ثمّ بقيتْ عيناكِ مثبّتتين صوت خطاهم، ولم يعودوا، فرحلتِ بهدوء كما تنطفئ شمعة بنسمة هواء باردة في الشتاء.
لمَ فتحت النافذة يا أبي؟ أولم أقل أنّ النسيم سيطفئ الشمعة.
اقرأ/ي أيضًا: