ذات يوم، منذ نحو عشرين عامًا، جلست قبالة كاتب وسيناريست سوري لأجري معه حوارًا صحفيًا حول مسلسل له كان يومئذ "يملأ الدنيا ويشغل الناس".
وقبل أن أشرع في طرح أسئلتي الكثيرة المكتوبة على ورقة في يدي، بادرني هو بسؤال: "بعيدًا عن الحوار.. ما رأيك أنت بمسلسلي؟". ولأنني كنت (ولا أزال) لا أثق كثيرًا بديمقراطية الكتاب السوريين، وبقابليتهم للنقد، فلقد تلعثمت بكلمات لم أفهم أنا شخصيًا منها شيئًا. قدم لي سيجارة وأشعلها لي، واقترب برأسه مني واضعًا يده على أذنه في إشارة إلى أنه يصغي جيدًا. قلت: "لدي تحفظ كبير على التوازن بين مساري عملك، ففيما الخلفية التاريخية تمضي مسرعة فإن شخوصك يمشون ببطء، بمعنى آخر: التاريخ يركض لاهثًا: انقلابات، ثورات، تغييرات متسارعة.. أما حيوات الشخصيات الدرامية التي من اختراعك فهي تراوح مكانها، وتدور في حلقة مفرغة إلى ما لا نهاية".
عاد برأسه إلى الخلف وأشعل سيجارة، له هذه المرة، وبعد لحظات صمت قال مبتسمًا: "ملاحظة جيدة.. هات أسئلتك".
يبدو التاريخ كقطار سريع، ولكنه لا يحملنا، نحن سكان هذه البلاد، في أي من عرباته، فنحن نجلس في المحطة وهو يمر من جانبنا كالصاروخ. لا يحملنا معه، وفي الوقت نفسه، تصيبنا سرعته بالدوار
لا أعرف إن كان قد اقتنع حقًا بملاحظتي، ولكنني أعرف أنني لم أعد أنا شخصيًا مقتنعًا بها.. نعم كان التاريخ يركض في مسلسله فيما كانت شخوصه تدور في المكان، ولكن لم أعد متأكدًا أن هذا كان عيبًا دراميًا.. خطأ يحتاج إلى تصويب.
ونظرة سريعة إلى ما حولنا، إلى ماضينا القريب وإلى حاضرنا، تؤكد أن التاريخ يركض بسرعة كبيرة فيما حيواتنا الشخصية تكاد لا تتحرك. هو يشطح بالكيلومترات ونحن نقيس خطواتنا بـ "الأشبار".
في حياتي الشخصية وصلت الحرب الباردة العظمى إلى ذروتها، وكان قطب عظيم يقول إنه سيقيم يوتوبياه السعيدة على أنقاض القطب الآخر، وإذا به هو ينهار وتتبخر يوتوبياه، ليروج كلام عن نهاية التاريخ وعصر القطب الأوحد، ثم وبسرعة تنتهي نهاية التاريخ وينتهي عصر القطب الأوحد، واليوم نجلس لنتفرج على صعود قطب، أو ربما أقطاب جديدة.
وكأنني عشت حياة نوح، إذ شهدت صعود أيديولوجيات "كبرى" وموتها، وأفول أيديولوجيات "كبرى" أخرى ثم صحوتها. استمعت إلى أهازيج للاشتراكية كانت تتردد في كل مكان حولي، ثم استمعت إلى شتائم لها كان يطلقها كل من حولي. تفرجت على احتفالات القومية "اللي ما يغلبها غلاب"، وتفرجت بعد ذلك على حفلات هجائها.
ولا شك أن التاريخ قد غيرنا معه، ففي صباي كنت أشكو لمعلمي في الابتدائية من أن "ضوء الكاز كان يتراقص" ما عطلني عن كتابة واجبي المدرسي، واليوم، بعد أربعة عقود، صرت أشكو لرئيس تحرير جريدتي من بطء النت الذي أعاقني عن إنجاز مقالي، ولكن هذا كل شيء. هو ليس بالقليل ولكنه ليس بالكثير أيضًا.
وأتساءل عن جوانب أخرى في حيواتنا.. فماذا فعلنا بأحلامنا، بأفكارنا، بمشاريعنا، بطموحاتنا؟
وأعود إلى نقاشاتي مع أبي، يوم كنت أناكفه قائلًا إن معتقداته وأفكاره وانتماءاته العتيقة، كلها قديم سوف نكنسه قريبًا ولن نترك له أثرًا. وأسأل: ما هي المسافة التي قطعتها حقًا عن أبي؟ بل وما المسافة التي قطعناها عن أسلافنا منذ مئة عام؟ أما نزال ندور حول أسئلة محمد عبده وقاسم أمين وطه حسين؟ أما نزال نكرر سؤالهم: "لماذا تقدم الغرب ولماذا تأخرنا"؟
والأدهى أن ابني يجدد النقاشات إياها معي، ولكن ليس من موقعه كابن، بل من موقع جده نفسه. لقد قفز من فوق رأسي ليصافح أبي ويعقد معه تحالفًا ضدي. وها هو يكرر في وجهي سخريات جده: "دولة القانون وهم، المواطنة حلم ساذج، العدالة الاجتماعية شعار فارغ، الديمقراطية ألهية يتسلى بها مدمنو قراءة الكتب". أما الواقع الحقيقي الصلب فهو: "عشيرة متماسكة ننتمي إليها، طائفة كبيرة تعطينا هويتنا، عمل ما يسترنا".
وإذا كان من عزاء في أن الأب يمثل الماضي، فماذا أقول إزاء الابن الذي يمثل المستقبل؟!
يبدو التاريخ كقطار سريع، ولكنه لا يحملنا، نحن سكان هذه البلاد، في أي من عرباته، فنحن نجلس في المحطة وهو يمر من جانبنا كالصاروخ. لا يحملنا معه، وفي الوقت نفسه، تصيبنا سرعته بالدوار.