يقف على شاطئ البحر الذي يعلوه الزبد، وحيدًا، يصرخ، كمشيئة، ككائن، يحاول أن يرتقي الجبل بأقدام من نار، ويأخذ خطّافه الحديدي ليلقي به على مسيرة الكائن الليلي، حين يجتاز الدروب الموصدة الأبواب، ليتركها خلفها تعوي كذئاب جائعة، تتربّص بالفريسة كلّ مساء، تهبط نحو السهول الفسيحة؛ لتقضم ما شاء لها من لحم خِراف باتت تنتظر على أحرّ من الجمر لحظة اللقاء، لكي تتخلّص من القلق الذي يساورها من القصص التي طالما روت لها الجدات عنهم، وعن وحوش قضمت لحوم أجدادها، كآخر اشتهاء للفجائع المتراكمة منذ الأزل في حياتها.
هو القلب، المطرقة التي تدقّ باب الليل؛ لتوقظ اليتامى الغافيين عن نداء الغد المتهالك للفقر، للحاجة، ووئد الفقراء، المتسكعين على الطرقات أبدًا، يعبثون براحة الحب، والأحلام السعيدة، التي نقشت صورتها، في أبهى تجلّيها على الوسائد المطرزة بخيوط الهناءة في رؤى المدينة التائهة.
تمضي الأيام به لينجز ما خططت له المشيئة في سيره، ليلقى تلك الأرواح التي كانت هنا، تسكن الشرق البائس، في غياهب الشرق نفسها، فينطلق بها، ومعها، إلى شمال يعد بالخبز لجميع الهاربين من لعنة الشرق، ومن مدارته القاتلة، المدارات التي كانت ذات حلم تفتح ذراعيها للمجد، لتحقق أسطورتها المنشودة في ذاتها، وتفتح رتاجات الأبواب فيصعد بها، بتلك الأرواح إلى دفاتر التاريخ، ويسكنها في صفحاته الغافية عما كان يجري في لحظة الغياب عن زمن نسي هو الآخر التدوين، فبقيت الكلمات تتيه منه كلما حاول أن يحمل القلم، ليكتب ذكرياته كأطفال يخطّون ما يحلو لهم على حيطان المدراس، لتمرّ بها الريح ذات يوم، وتجمع بقايا تلك الخطوط، وتسكب ما تبقى لها من دموع لهم، عندما يتذكّرون أنهم كانوا هنا، وأنهم تركوا قلبهم خلف ظهرهم في عمر الورود، ليتيهوا في المجهول، مع كل هبوب، مع كل شروق للشمس، وكل غروب لها.
سأحمل جراري الفارغة، وأنطلق بها إلى النبع، فهناك تركت نسائي، عشيقاتي، لأملأها حبًّا، وأرسم بيد من فجر صورة جميلة، وأحتفظ بمرايا عشقي الأزلي لهن، فيكتمل بهاء الربيع بي، بهن، ويردد النشيد نفسه فوق صفحة الماء الزلال، يعيد إلى العين ألق الرؤية بهن، وبالقلب الذي عشقهن ذات يوم.
لم تكن سفني تائهة يومًا ما، ولم تكن مراسيها تعبأ بالغرق أبدًا، فأنا اللحن الصاعد إلى أعالي الجبال التي تحيط بها كذاكرة، كحبّ، كنور، يرتفع، يرتقي الجبال، أنا الأثر الباقي من عمر ينفق كل لحظة، محاولًا عبثًا أن يندمل كجرح عميق أمضي ممتدحًا المكان، لأعثر على مقبض المواجع، فأستيقظ من رقدة العدم مرة أخرى، لأسير بي إلى نهاياتي الراسخة في الصدع، وأستذكر النساء اللواتي تركتهن كنسيم على الجانب الأيمن من حافة نهر يسكن مخيلة الشفق، مثلهن، فهن الشفق الذي ينساب أمام عيني في لحظة التيه، في لحظة الغروب، وهن نشيد المراكب المسافرة إلى شمال يحمل دروعه، ليلقاهم كمقاتل مجنون لهفة، وأكمل أنا - القلب - دروتي الأبدية بكل أمانيّ، رافعا أناملي السحرية التي تتضور جوعًا إلى اللقاء في أرض الذكريات.