في اليوم الحادي والعشرين من عصر الوباء، يقف الكل في طابور الإجراءات الاحترازية من العدوى. يرفع الفايروس حرارة المصابين، وشهوة التخزين والشراء للخائفين. وكأن الجميع أوشك على الدخول في حالة حصار كالتي تفرضها "إسرائيل" على غزة، أو التي فرضها نظام الأسد على السوريين، ومخيم اليرموك.
في "سوريا الأسد"، يواجه الناس عوامل "الطبيعة" أو "اللا طبيعة" بالتدخين، والدعاء في السرّ على عصابات حاكمة تأكل الأخضر واليابس
يخزّن الناس أوراق التواليت والأرز والعدس، صلصة السباغيتي بالإضافة للنبيذ وأدوات التعقيم. يقفون في طابور متباعدين ليشتروا حشيشًا وخبزًا وباقات ورود ملوّنة، خائفين من الفايروس ومن الانتظار.
لم تكن هناك حربٌ، حين كنّا نقف ساعات في طابور الخبز، أو السكر والأرز. في "سوريا الأسد" يؤمن الناس برعاية الله لذا كانوا يواجهون عوامل "الطبيعة" أو "اللا طبيعة" بالتدخين، والدعاء في السرّ على عصابات حاكمة تأكل الأخضر واليابس. يقتلون الوقت في الطابور بعدّ السيارات في الشارع، أو الواقفين أمام شباك صغير ينظر كل منهم في نقرة رأس قرينه، وفي حرف الأنظار عن صور الرئيس ويافطات التأييد والولاء، خوفًا من انفلات نظرة ناقمة من هنا أو من هناك تفضحهم أمام مخبر محتمل في الطابور.
اقرأ/ي أيضًا: صندوق الكتب المحروق
لم أحب يومًا الوقوف في طابور "المؤسسة"، أخاف من لساني المتفلّت وأنا أنتظر وأرقب الموظف المتنمر الفاسد، يصيح بالناس زاجرًا، ويتحدث معنا كأنه ضابط في "فرع فلسطين". كنت أتفل حين أقرأ يافطة كرتونية ملطخة بزيت دوار الشمس، تعتلي كوّة التوزيع الإسمنتية وكتب عليها: "فلسطين قبل الجولان.. من أقوال السيد الرئيس الرفيق المناضل حافظ الأسد".
في الطوابير التي وقفت فيها خلال رحلة لجوئي إلى هولندا لم أقارن طولها بما اصطففت به في مخيم اليرموك وسوريا، بل قارنت انكسارها غير المرئي. لم يتعمد أحد إشعاري بالإهانة في طابور الشمال وأنا في منتصف عمري، لكن نظرتي كانت طيلة الوقت مكسورة حين كنت أتناول طبق وجبتي في مخيم اللجوء، وهذا ما لم أشعر به إلا نادرًا في مخيم عشت فيه نصف عمري كاليرموك. شعرت كأنني أبي في طفولته حين ترك حربًا وموتًا مؤكدا خلفه، وكان ينظر مستهجنًا إلى علبة حليب كرتونيّة، لم يجبر شربها المنتظم أبدًا كسورًا في الوعي. حدث مرة واحدة بأن تذكرت ساعة حشر طابور المرحاض الصباحي، كالذي كان يقف فيه والدي كل صباح حين كان طفلًا لاجئًا، بعدما جاء مشيًا من فلسطين إلى درعا. لم ينس والدي الإذلال الصباحي الذي عاناه في المرحاض العمومي، عديم الخصوصية. "أسوأ تجربة بالحياة" قال حين شاهدنا مرة الفيلم الهندي "سلامدوغ مليونير". كان المرحاض الهندي في الفيلم يشبه ما خبره أبي حين كان بعمر جمال مالك بطل الفيلم، وربما أقلّ. "يمكن كان تنظيم وبناء مراحيض الذلّ فكرة إنجليزية" تمتم يومها، وأن وكالة الغوث أخذت في بنائها، بنصيحة الإنجليز الذين لعبوا الدور الأكبر بتسليم بلادنا للصهاينة.
حين قامت الثورة ضد نظام بشار الأسد في سوريا، أيدتها، لأن الطابور طويل ومذلّ.
لم يتذمر الناس من سلطة الطابور بصوت مرتفع، نادرًا ما تهامسوا وهم واقفون بذلّ. ولمَّا يكن عصر التقانة قد حل، بحيث يسرحون بهواتفهم النقالة وسماعات الأذنين عن تلقي ركلات الانتظار الطويلة. كانوا يدردشون فيما لا يزعج آذان الحيطان ويثير فضول العسس، يفرغون شحنات غضبهم بوجه بعضهم. ومن الخوف الشديد كان الأكثر ضعفًا في حلقة طابور الأسد يبالغون في إعلان الرضوخ، وهو ما كان يفقدهم حياتهم في بعض الأحيان، كما وقع مع أبو نسيم الميداني صاحب محل الحلويات في شارع فلسطين بمخيم اليرموك. كانت آخر "دردشة" قام بها على طابور مؤسسة توزيع المواد التموينية، قبل وفاة الدكتاتور حافظ الأسد بسنتين. كنّا نقف في طابور السكر تتعامد الشمس فوق رؤوسنا في نهار صيفي قائظ، وكانت صورة الدكتاتور مظللة بصفيحة معدنية فوق كوّة التوزيع ذات الباب الصدئ. أبو نسيم هو أيضًا ظلل صور حافظ الأسد على واجهة محل حلوياته، وفي داخله أحاط صورة تتصدر المحل يلبس فيها حافظ نظارة شمسية وبلباس الجنرال، أحيطت بشرائط ملوّنة كالتي تلف بها الهدايا."الله يعين رجال الشرطة" قال أبو نسيم وهو يدخن في الطابور، وتابع: بالأمس حدثت مشكلة كبيرة خلف معمل البسكويت، هاجم "زعران" حارة وضربوا أغلب الرجال فيها، وكسروا زجاج البيوت.
تحول رجال العالم السفلي، وأصحاب السوابق، خلال سنوات الثورة والحرب في سوريا إلى مقاتلين في جيش الأسد، أو جيش المعارضين
لم ينتبه صانع الحلويات من يقف بالقرب من طابور المؤسسة، ومتخذًا من مدخل محجر الرخام ظلًا في انتظار دوره. كان قريبي محمد أبو علي بين الواقفين، وقد كان مهابًا ومعروفًا بكونه من أشرس سكان المخيم و جواره خاصة حي "التضامن"، موسه الكباس (قرن الغزال) جاهز في كل لحظة، كان ماهرًا في استخدامه و"لئيمًا" لدرجة أن كل ضربة منه كانت تحدث عطبًا دائمًا في متلقيها. جاهز لـ "الفزعات" ونصرة المظلوم، واستحصال "الخاوة" من أصحاب الملاهي الليلية في الغوطة وربوة دمشق.
اقرأ/ي أيضًا: طلب انتساب إلى مخيم اليرموك
لا يوجد ساكن أو صاحب محل في شارع فلسطين ومنطقة "التضامن" ومخيم اليرموك لم يكن يسمع بمحمد أبو علي. أبو نسيم كان يخاف أن يأخذ منه ثمن المشتريات من محل الحلو، وكذا محلات الشاورما ومطاعم الوجبات السريعة، الخجل الطارئ في نظرته حين يقول صاحب محل لأبو علي: "خليها علينا"، لن تراه إلا في مصادفات شديدة الخصوصية. أبو علي كان يمشي عابسًا من باب "الوهارة" وليس كرها في الناس والحياة.
"مين بتقصد بالزعران يا عرصة؟" قال حين رمى السيجارة من يده، واقترب من أبو نسيم الواقف في الطابور، كاد أبو نسيم أن يبول في بنطاله حين رأى أبو علي، سبق لشارع فلسطين أن أغلق لساعات قبل ذلك اليوم بشهرين حين "مانع" دورية من خمسة عناصر جاءت لاعتقاله بسبب مشاجرة سابقة، لكنه تمكن باستخدام سكينه وهو سكران من إمساك عنصر من الشرطة (وكان يعرفهم بالاسم واحدًا واحدًا، ويعرف حجم فسادهم)، هرب باقي العناصر بعد أن أعمل فيهم سكينه، وبقي بين يديه جاره الشرطي بطرس الذي كان يتوسلّه: "أبوس إيدك يا أبو علي خلّيني"، لا يضربه بسكينه بل بقبضة مغلولة وهو يصيح ثملًا: "بدي أنـ...ك وأنـ...ك الأسد".
رغم نزول عناصر قسم شرطة التضامن بكاملهم لتخليص بطرس، إلا أنهم لم يتجرأوا على قتله، فهم كانوا يعلمون أنه قائد العالم السفليّ في المخيم، و"المرابع الليلية"، لديه أتباع وأصدقاء مخلصون ومتمكنون يمتدون في وجودهم بمختلف سجون ومدن سوريا. لم يدفع أبو علي مالًا كثيرًا لعناصر الشرطة الذين ضربهم بسكينه حين حاولوا اعتقاله، وبالأخص لبطرس كونه لم يتسبب له بجروح خطيرة ولم يستخدم سكينه في تثبيته، بل كان يتركه قليلًا ليضرب السيارة الكمونيّة بالسكين وهو يصيح: "بدي أنـ...ك الحكومة، بدي أنـ...ك الأسد". خرج بعد "تسوية" مع عناصر الشرطة ومدير المخفر الفاسدين، بعد ضوء أخضر من ضابط كبير في الأمن، تلقى جلّ المبلغ الذي أخرج أبو علي من السجن قبل أيام من حادثة الطابور.
قال أبو نسيم: "والله ما قصدي يا أبو علي" وعيناه على حركة يدي الأخير، ربما كان يسأل نفسه هل سيخرج سكينه؟ فهو يعرف بأن أبو علي لا يخرج سكينه دون أن يبلّها بالدم. لم يخرجها حينها، ربما الشيب في رأس أبو نسيم منعه، لكنه لم يمنعه من معالجته بصفعة على وجهه، أردته قتيلًا، مات على الفور مرعوبًا باصطدامه في طابور الانتظار بمحمد أبو علي.
أفرغ النظام السوري السجون منهم بعيد اندلاع الثورة ضده، وأطلق سراح الجهاديين من سجونه الحصينة. ناشرًا فايروسًا تحول إلى وباء عنيف
ذهل الجميع، وانحنى أبو علي محاولًا إنقاذ أبو نسيم، وظننا للوهلة الأولى أنه أغمي عليه. نظر إليّ وقال لي وهو مرعوب: "أخو الشرموطة مات"، أحضر موظف المؤسسة ماء وألقاه على وجه أبو نسيم محاولًا إيقاظه من إغماء قدَّره الجميع، لكن أبو علي أدرك أنه قتل أبو نسيم. نهض وهو يمسح دموعه قائلًا: مبارح واحد أخو شرموطة عاكس أختي الصغيرة، رحت على حارته، أخوه ضابط بالأمن سحب مسدس وطخ باتجاهي، أخذت فزعة ورجعت وما طلعت غير لربيت كل مين وقف مع الضابط وأخوه.
اقرأ/ي أيضًا: صفر الزمن الفلسطيني
"يلعن تعريص دين السجن، قضيت نصف حياتي بالسجن"، قال بحزن قبل أن يمضي ماشيًا بهدوء متواريًا في الأزقة الضيقة.
مات أبو علي قبل أن يبلغ منتصف عمره مقتولًا، غدره أصحاب ثأر، أو "أعدقاء"، قبيل زواجه بأشهر، وخروجه من سجن دام سبع سنوات بجناية القتل غير العمد لأبو نسيم. حين قتل كان أبو علي أعزلَ وسكينه قد أبعدت عنه، تلقى ضربة حربة واحدة في القلب فتلطخ مدخل البناية بدم نفر بغزارة. شيّعته جنازة مهيبة، شارك فيها الآلاف من عائلته ورجال العالم السفليّ المدججين بالسلاح، أقيمت مجالس العزاء في السجون المركزية التي زارها في حياته. وخلال العامين الذين تليا مقتله، قتل أو مات من عرف من المتورطين بدمه بظروف غامضة.
تحول رجال العالم السفلي، وأصحاب السوابق، خلال سنوات الثورة والحرب في سوريا إلى مقاتلين في جيش الأسد، أو جيش المعارضين، أفرغ النظام السجون منهم بعيد اندلاع الثورة ضده، وأطلق سراح الجهاديين من سجونه الحصينة. ناشرًا فايروسًا تحول إلى وباء عنيف، فازداد طول الطابور، لا للسكر والزيت والأرز، الغاز، الدواء، الخبز.. إلخ فقط، بل طابور "المسنفرين بأرواحهم".
بالطابور في زمن الفايروس، وفي مرمى النظرات المتوجسة الخائفة من العدوى، أحمل في السوبرماركت كيسًا قطنيًا وأنتظر دوري لصندوق الدفع الذاتي/ الآلي، يشبه "كيس التموين" الذي كنا نحضر به السكر أو الأرز من المؤسسة الاستهلاكية الحكومية، أمي كانت تغسله بعد كل مرة من أثر ميزان مؤسسة الأيديولوجيا، كما نفعل الآن في عصر الوباء بعد كل تسوّق، خوفًا من عدوى الفايروس، من الرفوف وتنفس الموظفين. كان لـ"كيس الخام" استخدامات إضافية، نصنع منه لبنة مخثّرة، أو تجفف فيها أوراق الملوخية الخضراء حين تضعها أمي على دورة التنشيف في غسالة الملابس، بعد تقطيف الأوراق وغسلها.
على دور الخبز أو السكر في طابور المؤسسة الاستهلاكية، تلك التي كنت أبحث عن فرع لها يصطف أمامه عدد أقل من الناس، لم يقف في يوم ما مسؤول فلسطيني أو سوري في صراطه. كان سائقو سياراتهم ومرافقوهم يقفون وإيانا فيه. لبعضهم من جنود أو من عسس مؤجّر يحمل مسدسًا ورمى عنه الأخلاق، خصصت حكومة الأسد كوّات لبيع "العسكريين"، فتجد مثلًا عند المخبز الآلي في المخيم، وخارجه، ثلاثة شبابيك حديدية لبيع الخبز، للنساء وللرجال و"العسكريين". هكذا كان الخبز الساخن يوزّع، والناس تشاهد وتدرك أن العسكري (ومن في حكمه) يضعهم في الطابور ويضبطهم فيه، فيما لا طابور له ولا صراط.
كان السوريون، "ومن في حكمهم"، يقفون على طوابير الخبز والسكر حين توسط الفرنسيون من أجل إخراج رفعت الأسد من سوريا، محملًا بمليارات الدولارات نحو منفاه الاختياري
حين كنت أخرج من مدرسة الوكالة التي تواجه المخبز، أصطف في الطابور لشراء خبز البيت، متسلحًا بنظرة شرسة تمرّنت عليها في سنوات فتوّتي، لتفادي احتكاك مع أترابي الواقفين على الدور، وكي لا أخسر دوري وخبز اليوم في اللحاق أو الانشغال بمشاجرة أكون طرفًا فيها أو متفرجًا عليها. حين يكبر الشخص يخسر تلك النظرة المستفزة المستنفرة، ليس بسبب النضج وتلّمس حكمة فقط، وإنما نتيجة للشجارات والمشاكل التي تقود إليها. وحين يكبرون، يتعلمون آداب الوقوف على الدور، ولا ينتهي احتجاجهم ويوجهونه تماما حيث يستحق، إلى صورة الديكتاتور فوق كوّة توزيع البؤس.
اقرأ/ي أيضًا: حيفا ويافا.. بحر الغائبين وبرّهم
كان السوريون، "ومن في حكمهم"، يقفون على طوابير الخبز والسكر حين توسط الفرنسيون من أجل إخراج رفعت الأسد من سوريا، محملًا بمليارات الدولارات نحو منفاه الاختياري. ولم يكن الفرنسيون كما اليوم يقفون في طابور الخبز المنظم في زمن الوباء. قد عاش طابور الخبز السوري وباء عسكريًا لم يشف منه ولم ينه فيه خدمة إلزامية لعسكر يلغّم الأرغفة، أو يقصف الفرن وإمدادات الطحين.
اقرأ/ي أيضًا: