لا تحتفي لوحات الفنان التشكيلي الإسباني كارلوس موراغو بالمكان بقدر ما تساءله وتبحث في معانيه التي تتمدد، عشوائيًا، في لحظتين فارقتين تؤسسان شكل علاقتنا به أو تعيدان صياغتها، وهما لحظتا مغادرته والعودة إليه بوصفهما لحظتين تستدعيان تساؤلاتٍ مختلفة حول معناه.
تستدعي بساطة لوحات كارلوس موراغو تفكيرًا طويلًا حول أسبابها، وما تقوله اللوحة عبرها، وما لا نراه فيها، أو ما لا يظهر منها
المكان في لوحات موراغو مدينة مرسومة من زوايا مختلفة، وممرات تفضي إلى أخرى ممتدة إلى ما لا نهاية، وشوارع، وأزقة ضيقة، وحدائق، وأحياء سكنية. لكن أمر هذه الأماكن لا يعنينا هنا في شيء، وليست هي مصدر الانطباع السابق، وإنما واجهات البيوت والغرف والصالات والممرات الفارغة.
اقرأ/ي أيضًا: في مسار محمد حافظ الفني.. لم نولد من هواء عابر
يرسم الفنان الإسباني هذه الأماكن بطريقة تجعل منها إحالة مباشرة إلى نقيضين هما المغادرة والعودة. ويؤلف قوامها التشكيلي، بألوانه الضبابية الخافتة وأشكاله الهندسية المتفاوتة، بحيث تدفع من يراها إلى التساؤل عن معنى المكان الذي يجعل من لوحاته، على اختلافها وتنافرها أحيانًا، متتالية قصصية تشترك في تقديم رواية واحدة أساسها فعلي المغادرة والعودة وما يترتب عليهما.
يشكل هذان الفعلان أساس لوحات موراغو التي تنقسم إلى قسمين، نرى في الأول غرفًا وصالات وممرات توحي الطريقة التي رُسمت بها بأنها مهجورة. بينما نرى في القسم الثاني المشاهد ذاتها تقريبًا، لكن قبل أن تُهجر. من هنا تكتسب اللوحات صفة متتالية قصصية، وتكون الغرف التي توحي بأنها مأهولة الجزء الأول منها، أو ربما بدايتها. أما ختامها، فهي الغرف والممرات المهجورة.
اللافت في الأماكن التي نراها في القسم الأول هو فراغها إلا من أشياء بسيطة، كرسي أو أريكة أو حتى لوحة معلقة على جدار. وبأن الطريقة التي رُسمت من خلالها توحي بأنها مشاهد أخيرة، أو أن هناك من يتجول بين هذه الغرف والصالات والممرات ويلتقط لها صورًا قبل أن يهجرها. وهذا ينطبق أيضًا على ما نراه في لوحات القسم الثاني، إذا نشعر أمامها أيضًا بأن هناك من يتجول بين غرفها وممراتها وصالاتها بعد أن عاد إليها.
لكنها قد تكون أيضًا مشاهد متخيلة، أو ربما محاولة في تخيل ما آلت إليه أحوال المكان بعد هجره. وما يبث هذا الانطباع عند المتفرج هو، أولًا، الأسلوب التي رُسمت من خلاله. وثانيًا الألوان الباهتة والضبابية التي توحي بأنها مشاهد تتشكل في المخيلة. مع ذلك، لا يلغي هذا الانطباع ما سبقه، بل يمكن القول إن الأخير يبدو أكثر قدرةً على التعبير عما نراه في تلك اللوحات.
تلتقي جميع الانطباعات التي تبثها لوحات كارلوس موراغو، على اختلافها، في فكرة أننا نرى فيها ما يراه غيرنا، أو نراه من خلاله. فالمشاهد المرسومة، بتركيبتها وطريقة بنائها وألوانها وما تعبّر عنه وتحيل إليه، تشي بأنها ما يظهر أمام آخر لا يظهر في اللوحة، ولا نرى منه سوى ما يراه أمامه.
لعل هذا ما يفسِّر إذًا فكرة أن الأمكنة في لوحات الفنان الإسباني جاءت إما أماكن مهجورة، فيكون من يراها، ونراها من خلاله، قد أقبل عليها لتوه. أو أماكن يشي فراغها، ونظافتها كذلك، بأنها أماكن توشك على أن تُهجر، فيكون من يراها إنما يلقي عليها نظرة أخيرة قبل هجرها. لذلك، ربما، تبدو لوحات كارلوس موراغو مساءلة لفكرة المكان وبحث في معناه.
لا تحتفي لوحات كارلوس موراغو بالمكان بقدر ما تساءله وتبحث في معانيه التي تتمدد في لحظتين فارقتين هما لحظة مغادرته والعودة إليه
لا يرسم كارلوس موراغو مشاهد غريبة أو غير مألوفة، بل يمكن القول إنها مشاهد شديدة البساطة، غير أن بساطتها هذه هي ما تجعلها ملفتة للانتباه، ذلك أنها بساطة تستدعي، بعد الانتهاء من مشاهدة اللوحات أو عند إعادة مشاهدتها، تفكيرًا طويلًا حول أسبابها، وما تقوله اللوحة عبرها، وما لا نراه فيها، أو ما لا يظهر منها.
اقرأ/ي أيضًا: معرض زياد أبي اللّمع.. ما تقوله الهوامش
التفكير في ما سبق يفتح اللوحة على احتمالات متعددة تجعل مما رأيناه معتادًا ومألوفًا، بل خفيفًا وعابرًا أيضًا، ينطوي على عمقٍ لا تكون انطباعاتنا عنده إلا محاولة للقبض عليه وتفسيره.
اقرأ/ي أيضًا: