لقصص الفساد والاحتيال في عالم النشر والكتابة مرارة مضاعفة، كأنّها مرارة مشتقّة من صورة الكتاب التي تحيطها في الأذهان هالة من البراءة المتصلة بقداسة الكلمة وسحر الحروف، فهو "خير جليس"، وهو الصديق المأمون الذي لا يحتال على صاحبه ولا يخيّبه. لكن الواقع مختلف، والخيبات لا تنتهي، والعالم لم يعدم الفساد يومًا في دور العبادة والمنظمات الخيرية والحقوقية على أن يعدمه في قطاع تجاري شديد التعقيد مثل قطاع النشر، الذي لا يمانع في أن يطحن تحت رحى المنافسة والأرقام أية قيمة أو إشكال أخلاقي.
تعود قصة ابتكار كاتبة وهميّة باسم كارمن مولا إلى العام 2018، حين صدرت رواية "العروس الغجرية" (The Gypsy Bride) بالإسبانية
آخر هذه الأمثلة كانت قصّة كارمن مولا التي شغلت الملايين حول العالم برواياتها الجرائمية التي حققت مبيعات ضخمة في إسبانيا والعالم. ثلّةٌ من الرجال، يحملون مشروع كتابة جماعيّة واعدًا، ارتأوا الاختباء وراء اسم وهميّ، لكاتبة غير موجودة، فيكتبون باسمها المستعار رواياتٍ ذات شخصيات نسوية جريئة وتفاصيل دمويّة صادمة، وحبكات تشويقية متقنة، فيحققون مبيعات ضخمة ويصنعون ظاهرة مثيرة للفضول والحيرة والإعجاب، وهي ظاهرة "كارمن مولا".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يكتب الأدباء بأسماء مستعارة؟
لكن صدمة كبرى مدويّة حصلت حين حازت هذه الكاتبة على جائزة أدبيّة مرموقة تبلغ قيمتها زهاء مليون دولار أمريكي، وعند إعلان اسمها صعد إلى المنصّة لاستلام الجائزة وحصد قيمتها ثلاثة رجال، هم خورخي دياز، وأوغستين مارتينيز، وأنطونيو ميرسيرو، هم من كتبوا كل تلك الروايات، وهم ثلاثتهم، كارمن مولا.
كارمن مولا والرجال الثلاثة
هؤلاء الرجال هم كتابٌ إسبان معروفون بكتابة النصوص لمسلسلات دراما شعبية في إسبانيا، من بينها مسلسل بعنوان "لا فردوس بلا أثداء" (Without Breasts There Is No Paradise)، أما الجائزة التي نالوها، وتبلغ قيمتها مليون يورو، فهي عن رواية تاريخية بعنوان "الوحش" بالإسبانية، والتي رشّحت للجائزة باسم "سيرجيو لوبيز"، وهو اسم مستعار للكاتبة (الوهمية)، كارمن مولا.
تعود قصة ابتكار كاتبة وهميّة باسم كارمن مولا إلى العام 2018، حين صدرت رواية "العروس الغجرية" (The Gypsy Bride) بالإسبانية، وهي رواية تدور أحداثها حول أختين تتعرضان للخطف والتعذيب حتى الموت، ثم تنجح محققة فائقة الذكاء وغريبة الأطوار في كشف لغز قتلهما. شكّلت تلك الرواية الجزء الأول من ثلاثية حققت مبيعات ضخمة في إسبانيا، تجاوزت 400،000 نسخة، كما ترجمت إلى العديد من اللغات حول العالم.
كارمن مولا، هي بحسب وصف دار النشر الإسبانية المملوكة لمؤسسة بينغوين راندوم هاوس العالمية، أستاذة جامعية في العقد الرابع من عمرها، تعيش في مدريد مع زوجها وأطفالها الثلاثة. وقد أجابت كارمن مولا هذه على طلبات العديد من الصحفيين لإجراء حوارات معها عبر التراسل الإلكتروني، وكشفت خلالها عن تفاصيل عن حياتها الشخصية وسيرتها المهنية، ولكنّها قالت إنها تستخدم اسمًا مستعارًا، لأنها لم ترغب في أن يُنظر إليها من قبل أصدقائها والعائلة بأنها شخص لديه القدرة على كتابة هذا النوع من القصص العنيفة، حيث تتعرض النساء للقتل بأكثر الطرق وحشية وفظاعة. تقول كارمن، كما ينقل عنها وكيلها الذي تحدث بدوره إلى صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، إن الناس حولها ينظرون إليها كشخص هادئ وكتوم، وقد يكون من الصادم لهم أن ترتبط مثل تلك الكتابات بشخصها.
إلا أنّ كلّ هذه التفاصيل ليست سوى نسج خيال وفبركة، وكارمن مولا لم تكن إلا اختراع أولئك الرجال الثلاثة الذين رأوا في اختراعها حيلة قد تضمن رواج ما ينتجونه في هذا الجنس الأدبي، وتتيح لهم فرصة الكتابة الجماعية، وتغري القرّاء والقارئات، وبالأخص القارئات، على شرائها. ويبدو أن الخطّة قد نجحت إلى حدود ربما لم يتخيّلوها، حيث قررت شركة إنتاج إسبانية شراء حقوق رواياتهم لتحويلها إلى مسلسل درامي، كما حازوا على جائزة أدبية كبرى، بقيمة مليون يورو (1.16 مليون دولار أمريكي).
قد يقارن البعض بين كارمن مولا وإلينا فيرانتي، وهو الاسم المستعار الشهير لكاتبة إيطالية ما تزال مكتومة الهويّة، بل وصفت مولا بأنها "إيلينا فيرانتي الإسبانية". ففيرانتي تجري حوارات صحفية عبر الإيميل، وهو ما تفعله كارمن مولا أيضًا. لكن فيرانتي، أو من هو/هي وراء هذا الاسم، لا تقدم تفاصيل عن شخصها ولا حياتها الخاصة، وتكتفي بالإجابة عن الأسئلة التي تمسّ فيرانتي الكاتبة، وهمومها في الكتابة والتأليف، دون التعرّض من قريب أو بعيد لتفاصيل حول الشخص الحقيقي وراء تلك الروايات.
أمّا في حالة كارمن مولا، فنحن أمام حملة تسويقية محترفة ومنظمة ممّن اختلقوا الاسم، ونسجوا حوله حكاية لشخصيّة وهميّة، معتمدين على مسوّغات مستهلكة، من قبيل تحاشي الكاتبات عمومًا كتابة مثل هذا الجنس من الروايات الدموية، وأنه قد يصعب على الكاتبة، لو أقدمت على كتابتها، الاعتراف بنسبتها إليها. وقد أثار اكتشاف الهويّة الحقيقية لكارمن مولا، وأنها ليست سوى اسم يختبئ وراءه ثلاثة رجال، ضجّة كبيرة في عالم النشر في إسبانيا، ارتدّ صداها في الصحافة العالميّة، حيث تأهّب الجميع للمزيد من الفضائح في هذا القطاع. أما المؤلفون الثلاثة، فلم يتوانوا في الدفاع عن أنفسهم، قائلين في حديث مع صحيفة "إل بايس" الإسبانية إنّهم لم يختبئوا خلف امرأة، وإنما وراء اسم امرأة".
ماريا راميريز، وهي صحفية وناشطة إسبانية، تشير في مقال لها في صحيفة واشنطن بوست هذه الحيلة التسويقية ليست جديدة في عالم النشر، إلا أنّ المؤسف في نظرها انطلاؤها حتى على الكبار في هذا القطاع من المحررين والناشرين، الذين لم يكلف أحد منهم نفسه عناء النظر في ظاهرة "كارمن مولا" التي تسيّدت المشهد الأدبي على نحو مريب، وتساهلوا في صعود هذا الاسم المستعار بدون مساءلة مدى الحاجة إليه.
غيرَ أن القصّة في الوقت ذاته لا تستدعي التهويل في مدى تأثيرها، كما تعترف راميريز، إذ لن يبقى من "كارمن مولا" سوى حكاية استغلال اسم امرأة من قبل عصبةٍ من الذكور الطامعين بالثروة من باب الكتابة، ولن يكون لكارمن هذه مقعد بين الأسماء النسوية المستعارة الأشهر في تاريخ الأدب قديمه وجديده، مثل جورج إليوت (ماري آن إيفانس)، وجين أوستن (التي لم يظهر اسمها على رواياتها أثناء حياتها)، والأخوات الثلاثة الأديبات من عائلة برونتي، واللواتي كتبن بأسماء مستعارة، وصولًا إلى جي كي رولينغ التي لم تفصح عن اسمها الأول، رغبة منها بأن تبقى هويتها محايدة جندريًا (على أغلفة كتبها)، وكتبت لفترة وجيزة باسم مستعار، وإيلينا فيرانتي التي تعد الأشهر بين الأسماء المستعارة في عالم الأدب العالمي المعاصر.
لكن موطن الريبة والاستياء في قصة كارمن مولا يكمن بحسب راميريز في الإساءة لقيمة الأدب، وتشويه قضيّة الجندر وتحويلها لأداة استهلاكية، خاصة في عصر يشقى المرء فيه بحثًا عن لحظة ثقة موجزة في ظل تفشّي بلاوي التضليل وجوائح الفبركة والتلاعب بالمعلومات في عوالم السياسة والدعاية والسوشال ميديا، وحيث أضحت مصداقية دور النشر التي تطبع الأعمال الروائية وغير الروائية، عملة نادرة لا بدّ من الحرص على عليها.
كما أن الحجّة التي اتكأ عليها الرجال الثلاثة أدعياء شخصية كارمن مولا (كارمن "الظريفة" بمعناها في الدارجة الإسبانية)، والتي ترى بأن للمرأة امتيازًا أكبر في قطاع النشر، هي حجّة واهية ومضللة، ولاسيما في إسبانيا، حيث تمثل الكتب بأسماء المؤلفين الذكور أكثر من 60 بالمئة من مجموع ما ينشر سنويًا في إسبانيا. هذا على الرغم من أن النساء هنّ "عصب" قطاع النشر، نظرًا إلى أنّهن الأكثر شراء للكتب الروائية من جميع الأجناس، وأكثر من 80 بالمئة من جميع مشتريات الكتب بالتجزئة في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا يقوم بها نساء.
أما الحجة الأخرى التي أوردها الكتاب الثلاثة على لسان كارمن مولا، فهي الأخرى ليست دقيقة، فالكاتبات يحققن نجاحًا غير مسبوق في عالم الرواية في شتّى أجناسها، وليس ثمة حاجة للاختباء وراء هوية مصطنعة خوفًا من نظرة المجتمع أو خشيةً من عدم تقبّله لما تكتب. فمن بين 1000 عمل من الأعمال الروائية الأكثر مبيعًا في العام 2020، كانت هنالك 629 عملًا تحمل أسماء كاتبات، وذلك كما تشير الكاتبة الأمريكية إريكا واغنر في مقال لها في فايننشال تايمز حول قصّة مولا والاستعاريين الثلاثة.
فالعائق الأساسي الذي ما تزال تواجهه الكاتبة والمحررة والوكيلة الأدبية، هو سيطرة الرجال على مفاصل قطاع النشر، وتأثيرهم في قرارات نشر الأعمال وتسويقها وترشيحها للجوائز وتيسير ترجمتها للغات العالمية، إضافة إلى كونهنّ يحصلن مكافآت وتعويضات أقل مقارنة بنظرائهن من الكتّاب الذكور، وهي معضلة قد تساعد قصّة كارمن مولا في إعادة النظر فيها والنقاش حولها.
الأسماء النسوية المستعارة.. عربيًا
في خضمّ النقاش المحتدم حول هؤلاء "الاستعاريين" الثلاثة، وتوظيفهم لشخص المرأة واسمها لأغراض تسويقية بحتة كما يجادل البعض، استعاد المعلّقون قائمة طويلة من الكتاب والكاتبات المكرسين الذين عاشوا حياة أدبية موازية وبأسماء مستعارة، وثمة دراسات عديدة ومؤلفات ومسارد ومعاجم تتناول ظاهرة الاستعاريين في التأليف والكتابة. أما عربيًا، فالتقليد قديم قدمَ الأدب العربي، والأمثلة الأبرز عليه معروفة للقرّاء، من المتنبي وصولًا إلى أدونيس. لكن ما يعنينا في هذا السياق هو تخفّي الكاتب وراء المرأة واسمها في الأدب العربي، وأسبابه ودواعيه. فالكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه، اختار الكتابة باسم "ليلى سليمان"، وكان هدفه من ذلك كما صرّح غير مرّة هو أن يتسلّح باسم نسائي لخوض معركة الثقافة والدفاع عن المرأة ضدّ الظلم والدعوة لأخذ مكانتها التي تليق بها في المجتمع. وقد فضّل الفقيه استخدام اسم المرأة، لأنه رأى أن ذلك سيربك "صفوف أعدائها الذين لا يتوقعون خروج صوت نسائي جريء يتولى مناقشتهم وإبطال الحجج التي يستخدمونها لإبقاء المرأة بين الجدران".
والمثال الشهير الآخر هو اسم "ياسمينة خضرا"، زوجة الجزائري محمد مولسهول، واسمه المستعار في الكتابة، وكأن زوجة الكاتب لا يكفيها عنت العيش مع شخص يحترف الكتابة، لتحمل عنه أيضًا عبء الاسم واستخدامه على مدى سنوات طويلة، بل والعبث فيه أيضًا، ذلك أن اسمها الحقيقي هو "يامينة خضرا"، أما تلك السين فكانت إضافة مقترحة من الناشر الفرنسي، الذي رأى، بعين التاجر، أن لاسم "ياسمينة" جرسًا تسويقيًا أفضل.
تبقى قضيّة الأسماء المستعارة قضيّة شائكة ومتعددة الأبعاد، ويصعب مقاربتها من منطق واحد
تبقى قضيّة الأسماء المستعارة قضيّة شائكة ومتعددة الأبعاد وجديرة بالمتابعة، ومن المخلّ مقاربتها من منطق واحد، أو الاستمرار في أسطرتها من منظور جندري، كالإصرار مثلًا على أنّ ماري آن إيفانز قد اختارت النشر باسم رجل (جورج إليوت) لضمان انتشار عملها وتقبله في الوسط الأدبي، رغم أن قصتها كانت أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير، أو من منظور عرقي، كخلط مسألة التخوف من الهوية العرقيّة بخيار الكاتب اللجوء إلى الاسم المستعار، كحالة الكاتبة الأمريكية من أصول أفريقية، آن بيتري، والتي نشرت أعمالها باسم "أرنولد بيتري"، رغم أنها لجأت إلى ذلك بسبب طبيعة شخصيّتها المتحفّظة التي لا تحبّ الأضواء ولا ترغب في إثارة اهتمام من حولها من العائلة والأصدقاء. ولعلّ المزيد من التمحيص في السير الأدبيّة لبعض أشهر الكاتبات الاستعاريّات في تاريخ الكتابة العربية، مثل "بنت الشاطئ، أو "باحثة البادية" أو "مي زيادة"، ومراجعة أعمالهنّ، كفيل بالكشف عن حكايات أكثر تعقيدًا وإثارة، بعيدًا عن اختزالها في موقف أخلاقي أحاديّ لا يخلو من التبسيط والمناكفة.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "ماذا تركت وراءك؟".. سيرة الألم اليمني