مأساة الفاصلة
علّمونا في دروس اللغة العربية أن الفاصلة قادرة على إنقاذ حياة إنسان، لكن العمل في التحرير الصحافي يعلّمنا أنها قادرة على إبادة فريق التحرير.
تُختصر أمثولة تلك الدروس في شخص يحمل رسالة تقول: "العفو ممنوع. الإعدام"، فتتوهج فطنته ويغيّر مكان النقطة لتصبح الجملة: "العفو. ممنوع الإعدام".
علّمونا في دروس اللغة العربية أن الفاصلة قادرة على إنقاذ حياة إنسان، لكن العمل في التحرير الصحافي يعلّمنا أنها قادرة على إبادة فريق التحرير
عاش ذلك الرجل بفضل النقطة، ولو لم يفطن لها لقُطعت رأسه، بينما نحن الذين نعمل في التحرير الصحافي مكتوب علينا أن نموت ميتة هذا الرجل بشكل يومي، من شدة ما نرى من اعتباطية في التعامل مع اللغة ككل، ومع علامات الترقيم بشكل خاص، إذ نرى الفواصل والنقاط والتنصيص.. تعيش عبثًا بأحوالها يساوي في قوته، من حيث المنطق، ما يجري للبشر الواقعين تحت نطاق حكم الدكتاتوريات.
اقرأ/ي أيضًا: اغتيال المحرر الأدبي.. أين اختفى المخبر السري الذي يكرهه الكتاب؟
ثمة من يضعون الفواصل والنقاط في كل مكان، وثمة من يقنّنون التعامل معها إلى درجة أننا نكاد لا نجدها فوق صفحاتهم إلا نادرًا.
ولأنها الأكثر حضورًا بين أخواتها في الكتابة، يمكننا الحديث دون وجل عن مأساة الفاصلة. وبالطبع ينطبق ذلك على بقية أفراد العائلة.
قبل البدء، أود أن أشير إلى جمالية هذا الكائن الذي يبدو على شكل نقطة سالَ منها شيء من الحبر فتحوّل إلى ذيل، ثم صارت تُرسم فعلًا نقطةً بذيل.
الفاصلة هي الحرف المشترك بين الأبجديات. صحيح أن هناك أبجديات متجاورة تشترك في حروف معينة، أو في الحروف كلها، كالعربية والفارسية، أو كاللغات اللاتينية والجرمانية، لكن لغات الشرق والغرب في عالمنا تشترك منذ عصر الطباعة بالفاصلة والنقطة وعلامتي التعجب والاستفهام.
الفاصلة علامة خاصة. قوة تعبيرية متقشّفة إلى الحد الأدنى. حركة واحدة. وسواء اتجهت تلك الحركة نحو الأعلى كما في اللغات الأوروبية، أو نحو الأدنى كما في العربية، فهي كائن ينبض بالحياة. الفواصل مثل مسامات الجلد، أما علامات الترقيم الأخرى فملامح، لولاها لما آمن أحد أن للغة المكتوبة جسدًا.
ولدت علامات الترقيم لكي تدلّ على العقل الحديث، عقل الحروف المطبوعة، المنظّم والمتسق والممنهج
ولدت علامات الترقيم لكي تدلّ على العقل الحديث، عقل الحروف المطبوعة، المنظّم والمتسق والممنهج، لكنها باتت تدل على اللامسؤولية واللااكتراث اللذين تتلقاهما الكتابة ممن يمارسونها، إذ تلعب الفوضى دورًا في الصفحات أكبر مما يلعبه المنطق أو التنظيم.
اقرأ/ي أيضًا: جورج ر. ر. مارتن: صنعة البستانيّ
ثمة من يضع الفاصلة بين الفعل وفاعله، أو بين الفاعل والمفعول به، وثمة من يضعها بين صفة الشخص التي تُعرّف به (الكاتبة، الطبيب، السفير..) واسمه، ولذلك ستغدو عملية التحرير في بعض الأحيان أقرب إلى فك شيفرات.
وإذا أضفنا إلى ذلك عبثًا آخر يتجلى في موقع كتابة الفاصلة، حيث إنها يجب أن تكون متصلة بالكلمة التي تسبقها، سوف يأتي من يضعها متصلة بالكلمة التي بعدها، أو مفصولة بفراغ عما قبلها وما بعدها، ما يعني زيادة غير منطقية في عدد كلمات النص، لأنّ ملف الكتابة سيحسبها في هذه الحال كلمة مستقلة، بالتالي يصبح حجم النص وهميًّا.
إذا كانت عدّة النجّار والحدّاد أدوات، تزداد جودة منتجاتها بازدياد القدرة على حسن استعمالها، فما الذي يمكن أن يقال عن نتاج كاتبٍ عدته الكلمات وعلامات الترقيم ونحن نراه لا يحسن إمساك أداةٍ منها، ولا يعرف ماذا يفعل بها، ولأن أمر ذلك الرجل الذي يحمل الرسالة ليس في يده فإنه يختار أن يطيح بنا، نحن الذين نضطر لقراءة نصه بسبب المهنة.
هناك تنكيل بالجمل يقوم به المحررون من خلال استعمال الفاصلة نفسها، وبذلك ينقلونها من حالة الضحية إلى حالة الجلاّد. يحدث هذا عندما تكون هناك جمل طويلة فيتم تقصيرها بوضع فواصل اعتباطية للإيحاء بقصر غير موجود، لأنّ هناك قاعدةً تقول إن الجمل القصيرة أفضل من الطويلة. لا اعتراض على القاعدة أبدًا، إنما الاعتراض على أن قصر الجملة أو طولها يتعلّق ببنائها الفكري لا بشكلانية علامات الترقيم بين كلماتها.
مأساة كان
كان ويكون وكنت وكنتم.. كلمات يجب أن نفتح عيوننا عليها جيدًا، لأنها تتسلل إلى الجمل تسلل اللصوص. وبطريقة غير واعية نجد أننا نكتبها بكميات هائلة دون أن نشعر.
قصر الجملة أو طولها يتعلّق ببنائها الفكري لا بشكلانية علامات الترقيم بين كلماتها
في كل مرة أحصل على مخطوطة صديق أضع كلمة "كان" في مربع البحث في ملف الوورد، ويظهر أنها تتكرر بشكل مرعب. لهذا صرت أعمل على تغييرها، واللافت فعلًا أن الجمل بعد التخلص من "كان" المتطفلة تغدو أجمل وأكثر شفافية.
اقرأ/ي أيضًا: عن الأدب والحرب
لنأخذ مثلًا في افتتاحية رواية "1984" لجورج أورويل في إحدى ترجماتها العربية: "كان يومًا باردًا من أيام نيسان بسمائه الصافية، وكانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر، عندما كان وينستون سميث بذقنه المنكفئة على صدره اتقاءً لريح بارد ينسلّ مسرعًا عبر الأبواب الزجاجية". والذي يخطر إلى البال فورًا أن حذف كل كان موجودة في هذه الفقرة، طبعًا مع تغيير اللازم نحويًّا، لن يؤثر على المعنى، بل سيزيده صلابة.
لنأخذ هذه الافتتاحيات في روايات مهمة ولنرَ كيف تحضر كان بكثرة فتحضر معها نوعًا من البلادة اللغوية:
- العجوز والبحر لـ همنغواي: "كان رجلًا أضنته الشيخوخة يعمل بالصيد وحده في مركب شراعي صغير في مجرى الخليج".
- خالتي صفية والدير لـ بهاء طاهر: "كانت علبة الدير هي آخر مشاويري في صباح العيد، فبعد العودة من هناك كان العيد الحقيقي يبدأ حين ألتقي بأقاربي وأصحابي ونبدأ اللعب".
- بقايا صور لـ حنا مينه: "كانوا يخرجون بأبي المريض على محمل، وكانت أمي تبكي وراءه".
تقول هذه الأمثلة، والعشرات بل المئات غيرها، إن الفعل الناقص "كان" يمتلك سطوةً نفسيةً على الكتّاب والمترجمين، والصحافيين طبعًا، حتى يحضر بهذه الغزارة الهائلة في متون النصوص، وبشكل عفوي كونه يظهر في مناطق مهمة كافتتاحيات الروايات والمقالات.
ربما يجدر التفكير، كما قلنا سابقًا، بكيفية الاستغناء عنه عبر كتابة الجملة ذاتها دون كان أو كانوا أو كنت. ومن يجرّبون إجراء هذا التغيير في الفقرات المنتقاة أعلاه أو في غيرها، سوف يجدون أن للجمل احتمالات بلاغية كثيرة أفضل وأجمل من هذه التي تحتوي على هذا الفعل، وهذه إحدى الطرق التي تُخرج جملنا عن المألوف والشائع، وتمضي بها نحو بلاغة تجعل للغة هيبة ومتانة، ناهيك عن أن هذه التجربة تُثبت أن "كان" زائدة في كثير من الأحيان، وما هو زائد وقابل للحذف فالأجدى عدم كتابته أصلًا.
مأساة أسماء العلم
تعاني الأسماء عذابًا قاسيًا في كتابتنا العربية المعاصرة. وسواء كانت عربية أو أجنبية نجد أن لكلٍّ منها طريق آلامه، الخاص أحيانًا، والمشترك في أحيان أخرى.
لن أقول إن أسماء العلم تحمل صليبها، فالمنصف قول إننا نحمّلها صلبانًا وندفعها إلى الجلجلة.
تعاني الأسماء عذابًا قاسيًا في كتابتنا العربية المعاصرة. وسواء كانت عربية أو أجنبية نجد أن لكلٍّ منها طريق آلامه
أول ما يحدث للأسماء أنها تُوضع بين قوسين أو علامتي تنصيص في المتون، والحجة عند من يفعلون ذلك أنهم يريدون تمييزها عن سواها من الكلمات. يا لها من مزحة! أسماء العلم موجودة لأجل هذه المهمة. هي بذاتها تميّز من يحملها. إذًا من يفعلون ذلك يعتدون على هويتها.
اقرأ/ي أيضًا: نُزهة في جمجمة آرتو
هذا ما تعاني منه الأسماء كلها، لكنها حين تنتمي لثقافة أخرى نواجه مشكلة الصيغة، ولبعض الأسماء صيغ تجعل من الاسم اسمًا آخر بشدة تباعدها. انظروا إلى هذه القائمة الصغيرة لبعض مما هو مشهور في هذا الباب:
- فرانتز كافكا، فرنتز كافكا، فرانتس كافكا، فرانز كفكا.
- كافافي، كفافي، كافافيس.
- إرنست همنغواي، إرنست همنجواي، إرنست همينغوي.
- حنا أرنت، حنة آرنت، حنا أرندت.
- غابرييل غارسيا ماركيز، جابرييل جارسيا ماركيز، غابرييل غارثيا ماركيث.
- خورخي لويس بورخيس: يأتي اسمه الأول: خورخه، جورجي، خوسيه. أما اسم العائلة فيتنوع بين: بورخيس وبورخس.
هناك مأساة أخرى. الاسم نفسه ليس الاسم نفسه، فيحدث أن يتغيّر اسم الشخصية الرئيسية في رواية مسلسلة. في رواية "ميلينيوم" يحمل البطل اسم ميكائيل في الجزء الأول، لكنه في الجزء الثالث أصبح مايكل. والسبب البسيط هو تغير المترجم.
من جانب آخر، رأينا كيف تغيّر اسم مؤلف رباعية "مقبرة الكتب المنسية" من كارلوس لويس زافون إلى كارلوس رويث ثافون، كما ظهر على غلاف كتابه القصصي "مدينة من بخار".
لدينا مثال هام عن الدقة والأمانة التي لا يحتاج إليها القارئ أبدًا، إذ يبدو خيار الترجمة بوصفها خيانةً ضروريًا وملحًا، ففي رواية "اسم الوردة" في ترجمة أحمد الصمعي نقرأ اسم البطل غوليالمو، وهو معادل وليم باللفظ الإيطالي. ولعل الذهاب إلى الخيار الشائع والسهل هنا يخلق علاقة أكثر حميمية مع الشخصية. وهذا التمسك الحرفي بالاسم ولّد مشكلة دلالية كبيرة في فهم الرواية مع اسم شخصية الراهب الأعمى جورجي الذي يحمي كتابًا من عبث الفضوليين بتسميم صفحاته. جورجي يعادل في الإيطالية خورخي، وإيكو أراد لنا أن نقرأ الاسم وفي بالنا خورخي لويس بورخيس، لعماه وعلاقته الأسطورية مع الكتب، لكن الترجمة التي ظلت وفية لمزاج القارئ الإيطالي لم تترك للقارئ العربي أن يلتقط هذه الإشارة بسهولة، هذا إن التقطها أصلًا.
اقرأ/ي أيضًا: