من الذي كتب أعمال وليم شكسبير؟
يقدم البعض الإجابة الأبسط والأقرب إلى البداهة: إنه وليم شكسبير بالطبع. ولكن المسألة، لدى آخرين كثر، ليست بهذه البساطة، ولا يمكن لأي إجابة أن تختزلها أو تضع، هكذا وبسهولة، نقطة على آخر السطر فيها. بل إن عددًا من المؤرخين والنقاد يحسمون بالاتجاه المعاكس، فمسرحيات شكسبير كتبها رجل آخر غيره، والمرشحون أكثر من واحد: فرانسيس بيكون، كريستوفر مارلو، والتر رالي، الملكة اليزابيث.
ولماذا يُحرم الشاعر الإنجليزي من مجده؟ لماذا لا يكون هو الكاتب الفعلي للأعمال المنسوبة إليه؟
كتب مارك توين في عام 1909: "السيرة الذاتية لشكسبير أشبه بالبرونتوصور الذي يقف في متحف التاريخ الطبيعي: كان لدينا تسعة عظام منه، وشيدنا بقيته من جبس باريس". وهذا هو جوهر المشكلة، فالوثائق القليلة المتوفرة عن شكسبير لا تتيح القطع بأنه هو كاتب الروائع الخالدة، إذ تقول هذه الوثائق إنه ولد في بيت صانع قفازات فقير، وعاش في مدينة ستراتفورد أون إيفون، ولا شيء أهم من ذلك. ليس في وصية الرجل أدنى إشارة إلى إرث أدبي، وليس في وثائق مدينته أي دليل على كونه كاتبًا وشاعرًا عظيمًا. "لا يوجد مخطوطات بخط يده، أو حتى خطابات. لا يوجد توقيعات، فيما عدا ستة بخط مهتز غير واضح.. ولا يوجد أي سجل يذكر التحاقه بمدرسة في ستراتفورد تعلم فيها اللاتينية واليونانية، أو أنه قد سافر للخارج، أو كان له أي علاقات وثيقة بأي شخص في بلاط الملكة".
باختصار فإن الرجل المولود في ستراتفورد غير مؤهل ليكون كاتب "المآسي" وغيرها من الأعمال الخالدة، فهذه الأعمال تشي بكاتب ذي سيرة أخرى ومؤهلات مختلفة.. شخص يمتلك معرفة واسعة بإيطاليا، والعائلة المالكة، والفلسفة، والأدب، والتاريخ، والقانون، والطب.
مارك توين: "السيرة الذاتية لشكسبير أشبه بالبرونتوصور الذي يقف في متحف التاريخ الطبيعي: كان لدينا تسعة عظام منه، وشيدنا بقيته من جبس باريس".
والفجوة بين الشخصين، شكسبير الوثائق وشكسبير المسرحيات، هي ما أرق الباحثين وأثار حيرتهم، فراحوا يملؤونها بشتى النظريات والاقتراحات.
بدأت القصة في القرن التاسع عشر، عندما تعاظم الاهتمام بالشاعر الإنجليزي مع صعود الرومانسية، وإذ صار تحت الأضواء الساطعة فقد ولدت الأسئلة المحيرة بشأنه، ولم يمض وقت طويل حتى قدم البعض مرشحًا يحل اللغز، ذلك أن مواصفات كاتب الروائع الشكسبيرية تنطبق على فرانسيس بيكون، الفيلسوف والعالم والكاتب الموسوعي. وما بدأ مجرد نظرية سرعان ما صار عقيدة لها أتباع ومريدون ومتعصبون. ولقد شوهدت ديليا بيكون (لا تمت بصلة قرابة إلى فرانسيس) تحمل مجرفة وتهم بفتح قبر شكسبير، فقد كانت متأكدة أن الدليل على نسبة المسرحيات إلى بيكون لا بد أن يكون مدفونًا مع الرفاة!
ارتكب أنصار النظرية البيكونية الكثير من الحماقات، بل أن بعضهم تحولوا إلى مشعوذين، إذ رأوا في مسرحيات شكسبير مجرد متاهات وكتابات ملغزة وراحوا ينبشون فيها بحثًا عن شفرات معينة. بالأحرى: شيفرة وحيدة، هي جملة تؤكد أن الكاتب رجل اسمه فرانسيس بيكون.. وبالفعل عثروا على مثل هذه الجملة، ولكن تبين أنها من تأليفهم هم، فما داموا قد حددوا الجملة المطلوبة سلفًا فقد كان سهلًا أن يستخرجوها من ملايين الحروف الموجودة في أعمال شكسبير!
ولم يكن نصيب المرشحين الآخرين بأوفر من هذا، وإذا كان شكسبير، ابن صانع القفازات، ظل مطعونًا في أهليته، فإن حال الأسماء البديلة لم يكن أفضل بأي حال.
في كتابه "ألغاز تاريخية محيرة"، (ترجمة شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي)، يحكي بول أرون هذه القصة، موردًا الكثير من الوقائع الطريفة والتفاصيل الشيقة. غير أن حكاية شكسبير ومؤلفاته ليست هي مادة الكتاب الوحيدة، بل إنها فصل واحد بين 25 فصلًا، عنونها المؤلف بأسئلة من قبيل: هل كان أسلافنا من النياندرتال؟ أوقعت حرب طروادة بالفعل؟ من مخترع الطباعة؟ هل مات موتسارت مسمومًا؟ لماذا تخلى فرويد عن نظرية الإغواء؟ هل نجا أي من عائلة رومانوف؟ هل كان غورباتشوف جزءًا من انقلاب أغسطس؟
وربما يوحي عنوان الكتاب، وعناوين الفصول كذلك، بأننا أمام واحد من تلك الكتب التي تسعى إلى الإثارة الرخيصة فتحول التاريخ إلى مادة للأحاجي والألغاز الساذجة. ولكن من يقرأ سوف يكتشف سريعًا أنه أمام شيء مختلف تمامًا، فهنا ثمة جهد دؤوب في تقصي الحقائق والنبش في الوثائق والمصادر التاريخية، وثمة منهج علمي في غربلة الروايات وموازنة مختلف وجهات النظر.. وكل هذا يقدم بأسلوب رشيق جذاب، ومن زاوية لا تخلو من جدة وطرافة، فالمؤلف، وهو صحفي أميركي معروف، يعامل هذه القضايا التاريخية وكأنها حوادث وأخبار واردة إلى صحيفته للتو، ويعامل المؤرخين كأنهم مخبرين صحفيين.. يلح في طرح الأسئلة عليهم ويدقق في مصادرهم ويلاحظ تناقضاتهم.. وفي النهاية يقدم لقارئه ما يقدمه الصحفي الشاطر لقراء جريدته: مادة مثيرة وعميقة، جادة وسهلة.. وجبة سريعة ولكن مذاقها يدوم طويلًا.
الألغاز التي يعنى بول أرون بها هي قضايا وحوادث تاريخية، ظل المؤرخون عاجزين عن إيجاد أجوبة أو تفسيرات قاطعة في شأنها، وهو إذ يحرص على استعراض مختلف الاقتراحات والنظريات، فإنه لا يستسهل الحسم، ولا يختم النقاش بإجابة نهائية من عنده، غير أنه وبذكاء يرجح بعضًا من الإجابات ويثقّل عددا من النظريات على حساب أخرى يراها هشة ولا تصمد أمام امتحان مدقق.
تبدأ مختارات الكتاب من العصر القديم وصولًا إلى الزمن المعاصر، مرورًا بمختلف الحقب التاريخية، وكلما كان يقترب من زمننا فإن جرعة المتعة كانت تزيد، ربما لأن الكاتب امتلك هنا كمًا أكبر من الوثائق والمعطيات، وكذلك لأن الشخصيات المعاصرة لا تزال تحتفظ بتأثيرها على عالمنا، ما يجعل فضولنا نحوها أكبر.
هكذا فإن الفصول المتعلقة بمقتل أسرة رومانوف القيصرية الروسية، ومقتل ابنة أخت هتلر، وسفر رودلف هس المفاجئ إلى اسكتلندا، وقضية غورباتشوف وانقلاب آب/أغسطس.. كانت هي الأكثر تشويقًا وإثارة للفضول، على عكس الفصل المتعلق بإنسان النياندرتال، مثلًا، والذي بدا وكأنه مجرد استعراض لنظريات مكرورة وأفكار مألوفة بلا جديد يذكر.