صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ترجمان، كتاب منذر ماخوس إرهاصات التنمية والثورات المجهضة في العالم العربي. وهو من ترجمة مونيك كامل ومراجعة ابتسام الخضرا. يقع الكتاب في 448 صفحة، ويتألف من مقدمة وخمسة فصول، توزعت على المحاور التالية: الفصل الأول: "مستوى تطور الإنتاج وبنية الاقتصاد الوطني في البلدان العربية"؛ الفصل الثاني: "التنمية الاجتماعية والبشرية في العالم العربي"؛ الفصل الثالث: "التكامل العربي وتقديرات موجزة لوضع البلدان العربية في الاقتصاد العالمي"؛ الفصل الرابع: "الاقتصاد السياسي والسياق التاريخي للعالم العربي: النفط والإسلام والعنف والديمقراطية والنمو"؛ الفصل الخامس: "الربيع العربي والثورات المجهضة". ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
يعالج كتاب "إرهاصات التنمية والثورات المجهضة" إرهاصات وتحديات التنمية وتطور البلدان العربية، النفطية منها وكذلك ذات الاقتصاد المتنوع، باستخدام الطرائق الحديثة للتحليل الاقتصادي وطرائق الإحصاء الرياضي المتعددة الأبعاد
يعالج الكتاب إرهاصات وتحديات التنمية وتطور البلدان العربية، النفطية منها وكذلك ذات الاقتصاد المتنوع، باستخدام الطرائق الحديثة للتحليل الاقتصادي وطرائق الإحصاء الرياضي المتعددة الأبعاد؛ إذ يرى المؤلف أن الدول العربية الخليجية النفطية حققت طفرات نمو اقتصادي غير مسبوقة، بالانتقال إلى النمو الرأسمالي مباشرة، متجاوزة المراحل الوسطية، بينما تموضع مستوى النمو الاقتصادي في البلدان ذات الاقتصادات المتنوعة والمتواضعة على مستوى الثروات الباطنية في مراتب متأخرة جدًا في المشهد التنموي العالمي.
ويحاول المؤلف أيضًا الإجابة عن أسئلة منها: لماذا أُجهِضَت ثورات الربيع العربي في موجتها الأولى في سوريا وليبيا واليمن؟ وكيف؟ وأتُعتبر الانتفاضات التي اندلعت في السودان والجزائر ولبنان والعراق موجة جديدة من موجات الربيع العربي، أم هي ارتدادات لشحنات زلزالية لم تفرغ في حينها بسبب التطورات الدراماتيكية التي حدثت على نحوٍ خاص للانتفاضات في سوريا وليبيا واليمن منذ مراحلها الأولى؟
مستوى تطوّر الإنتاج وبنية الاقتصاد الوطني
خلال الفترة الممتدة من ستينيات القرن العشرين حتى تسعينياته، كانت البلدان المنتجة للنفط تسجّل ميولًا واضحة إلى التصدير والادّخار أعلى من المتوسط في البلدان النامية الأخرى. وبذلك، يُنظر إليها على أنها أزالت القيدين اللذين يُعتبران بالغَي الأهمية من أجل تعزيز معدل النمو.
ولسوء الحظ، لم تكن استعادة التوازن الخارجي والمالية العامة كافية لتعزيز نمو أسرع، وتنوّع اقتصادي للمنتجات المحلية في آنٍ واحد. ومع ذلك، فإن بلدان الخليج، والمكسيك، ونيجيريا، والإكوادور، مثلًا، كانت لديها خطط جادة لتعزيز قطاع النفط. ذلك أنه يمكن تقدير المبالغ المستثمرة، حتى التسعينيات في اقتصادات النفط في العالم الثالث، منذ عام 1973 في مشاريع التنمية بمعناها الواسع، بقرابة 1500 مليار دولار. فقد كانت جميع المجالات معنية بهذا الانفاق التنموي: التعليم والصحة والبنى التحتية والكهرباء والطرق والسكك الحديد والمياه والزراعة والصناعات بما فيها مجمعات بتروكيماوية عملاقة في بعض الدول. وأنشئت أيضًا جامعات مرموقة في كلٍّ من الإمارات العربية المتحدة، وقطر، والمملكة العربية السعودية، والكويت. لقد جرى تدريب مئات الآلاف من الكوادر والفنيين بتكاليف باهظة في البلدان الصناعية أو في الموقع المحلي، وأنشئت وسائل اتصالات ضخمة، مثل نظام عربسات. وأخيرًا، استُثمرت مبالغ كبيرة تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات في قطاع التكرير والبتروكيماويات، الذي يُعدّ القوة الدافعة لعملية التصنيع بالنسبة إلى المنتجين، وفي اقتصاد ما بعد النفط حيث تنوُّع الاقتصاد يضمن النمو المستقل للدخل.
بعد عرض الهدف المرجو لما بعد النفط، هل يمكننا الآن القول إن الاقتصادات النفطية اقتربت منه؟ وهل تسير الاقتصادات النفطية على طريق التنويع الصناعي والاقتصادي؟ وعلى المستوى الأعم، هل نتجه إلى خلق اقتصادات ذات بنية رأسمالية وتطوير تقنيات محلية؟ في كلمة واحدة، هل اقتربنا من نقطة إدامة النمو الذاتية؟
العولمة جدل في أوساط خبراء الاقتصاد العرب
إن التحدي الأكبر للعولمة الذي تواجهه غالبية البلدان العربية هو الحاجة إلى السير على المسار الصحيح، ومواجهة عيوبها البنيوية. ويتطلب هذا تطوير جميع المجالات في كل بلد. أولًا، ينبغي لكل بلد في المنطقة اتّباع سياسة اقتصادية جديدة تهدف إلى زيادة دور القطاع الخاص وفعالية الحكومة على جميع المستويات، ولا سيما في مجال التنمية البشرية. ويجب أيضًا أن تؤدي كل الجهود إلى تنسيق إقليمي وتكامل اقتصادي. يتطلب التصحيح البنيوي وقتًا وموارد كبيرة وخبرات، ويجب أن تكون الإصلاحات السياسية تدرجية، وأن يكون تحرير التجارة انتقائيًّا للغاية من أجل الدفاع عن مصالح السكان وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية ووظائفهم. ومن المفترض أن تكون سياسة الاقتصاد الكلي متوازنة على نحوٍ جيد، للحفاظ على المدخرات المحلية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، وتحفيز زيادة الإنتاجية والقدرة التنافسية في الأسواق المحلية والخارجية.
والأهم من ذلك هو ضرورة أن يصبح نمو التجارة الإقليمية هدفًا للسياسة الداخلية لأي دولة في المنطقة؛ لأن ذلك من شأنه أن يزيد من مستوى الصادرات في إطار التجارة الإقليمية. وهناك أيضًا حاجة إلى سياسة طويلة الأجل وقيادة فعالة؛ وهو أمر يمكن تحقيقه، إذا توافرت إرادة ومحفّزات للإصلاح الداخلي والتكامل الإقليمي.
التكامل الاقتصادي في المنطقة العربية يجب أن يتحقق في شكل كيان تجاري، على غرار العديد من التحالفات التجارية الدولية التي أثبتت نجاحها
إن النفط أحد أهم العوامل التي أثّرت في تطوّر المجتمع العربي على مدى السنوات الستين الماضية، ليس بصفته مصدرًا للموارد المالية فحسب، بل أيضًا باعتباره عاملًا يشكِّل القيم، والبنى، والعلاقات الاجتماعية في الاقتصاد الريعي.
ويمكن هنا تأكيد أن التكامل الاقتصادي في المنطقة يجب أن يتحقق في شكل كيان تجاري، على غرار العديد من التحالفات التجارية الدولية التي أثبتت نجاحها. وبمجرد أن يصبح التكامل الاقتصادي حقيقة معترفًا بها، فإنه سيكون مفيدًا للمنطقة بأكملها. مع ذلك، يمكن أن يؤدي التكامل إلى تغير وظائف السلطة وصلاحياتها في بعض الدول العربية. وهذا يعني أن التحدي الحقيقي الذي يواجه مستقبل العالم العربي يتعلق بالمجال السياسي؛ أي إلى أيِّ حدّ ستكون الأنظمة السياسية في المنطقة قادرة على الإصلاح من أجل مشاركةٍ أكبر، في إطار نظام منفتح على العلاقات بين الناس والدولة، وبخاصة للتنسيق والتكامل على الصعيد الإقليمي؟
في الأوساط الاقتصادية العربية، تيار إلى حدٍّ ما قوي، يرسم علاقة متبادلة بين العولمة والوضع الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يُثبت هذا الاتجاه أن درجة اندماج المنطقة في الاقتصاد العالمي تحتاج إلى إعادة النظر، شريطة الاندماج المستقبلي في التجارة ونمو الاستثمار الأجنبي المباشر وتوسيع التجارة. نفترض أنه إذا جرى تحييد النفط لفترة من الزمن، فإن التكامل التجاري سيكون ضئيلًا للغاية؛ ذلك أن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر من أدنى المعدلات في العالم. إضافةً إلى ذلك، فإن المنطقة مستبعدة إلى حدٍّ بعيد من الاقتصاد العالمي، إذا حكمنا عليها من خلال انخفاض مستوى التجارة بين قطاعات الصناعة. ولا يوجد ارتباط واضح بين ضعف التكامل وسوء الظروف الاقتصادية في المنطقة. ولا يمكن الجزم بأن التكامل في الاقتصاد العالمي سيؤدي تلقائيًّا إلى تحسُّن نوعي في اقتصادات المنطقة، تمامًا كما لا يستطيع أحد أن يؤكد أن ضعف التكامل هو السبب الوحيد للصعوبات التي تواجهها البلدان المعنية.
الربيع العربي والثورات المجهَضة
من الواضح أن التنمية المشوهة، وغير المتوازنة التي حدثت في معظم البلدان العربية منذ استقلالها، تدل بوضوح، خاصة في البلدان العربية المحدودة المصادر الطبيعية (باستثناء ليبيا التي هي موضوع مستقل تداخلت فيه عوامل أخرى)، على أنها كانت تساهم باستمرار وبنسق تصاعدي (كما حدث في بلدان أخرى خارج المنطقة في مراحل أخرى) في تراكم عوامل الانفجار المجتمعي والسياسي لأسباب مباشرة يغذيها الاستبداد والفساد.
الحالات الأكثر درامية وكارثية كانت في سوريا وليبيا واليمن، بينما اكتست تطورات الأوضاع في مصر وتونس طابعًا مختلفًا في العديد من التفاصيل والعوامل. أما الإشكاليتان السورية والليبية، فهما الأكثر تشابهًا من حيث طبيعة القوى الداخلية المحلية المنخرطة وطبيعة امتداداتها الخارجية، وخصوصًا حجم الدمار البشري والاقتصادي ودمار البنى التحتية. والمسألة اليمنية، على الرغم من حجمها الكارثي القابل للمقارنة بسورية وليبيا، فإن لها بعض التمايزات، فيما يخص النظام الحاكم السابق قبل الانتفاضة، والذي صار بسرعة خارج المعادلة من دون مقاومة تقارن بما حدث في سوريا أو ليبيا.
فدخول الحوثيين منذ السنوات الأولى على الخط، والانقلاب على نظام الرئيس اليمني المعترف به دوليًا في إطار فتح ساحة جديدة للنفوذ الإيراني ضمن مشروعه الإمبراطوري، فَتَحَا الأبواب على مصراعيها لإيران في ساحة جديدة لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها، وبخاصة لاستعمال الأوضاع الجديدة في اليمن خنجرًا في خاصرة المملكة العربية السعودية. لقد حوّل هذا الوضع الجديد اليمن إلى ساحة كارثية على شاكلة الحالتين السورية والليبية.
المهم أن الجذور العميقة والأساسيات المتعلقة بمقدمات الزلزال هي تقريبًا نفسها في كل البلدان الخمسة، مع وجود فوارق نسبية تختلف في كل حالة عن الحالات الأخرى. وتقوم تلك الجذور العميقة والأساسيات على أسس اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولا سيما ما يتعلق بالحوكمة وإدارة الاقتصاد وحجم الموارد. ونقصد هنا بصفة خاصة البلدان الفقيرة بمواردها الطبيعية.
في الثورة السورية، مثلًا، ساعد في الوصول إلى هذا الوضع فشلُ غرفتَي ما يسمى الموك "MOC" والموم "MOM" في دعم الفصائل المسلحة ذات المشارب والأجندات من كل حدب وصوب. كانت المساعدات توزَع توزيعًا غير متوازن، يتأثر بموازين قوى الدول العاملة داخل هاتين الغرفتين، وبأجنداتها ومصالحها الخاصة على وجه الخصوص.
التنمية المشوهة التي حدثت في معظم البلدان العربية منذ استقلالها، تدل بوضوح على أنها كانت تساهم باستمرار في تراكم عوامل الانفجار المجتمعي والسياسي
لاحقًا، كما نعرف، ألغيت الغرفتان وأصبح التمويل يصل مباشرةً وخارج أيّ معايير، كان ما يسمى الجيشَ الحر أمرًا واقعيًّا، نُفِّذت عمليات متعددة لتصفيته، قامت بها الفصائل المتشددة المتنامية باطراد على الساحة بسبب الانخراط المباشر لبلدان إقليمية ودولية في دعم مكثف وحصري ومباشر لها. والحصيلة أن الجيش الحر انفرط بكامله تقريبًا في الفترة 2013–2014.
كانت هذه الوقائع تتطور باستمرار، وتتعمق وفق المسار السابق المشار إليه حتى عام 2015، حينما شعر الطرف الروسي الذي كان حاضرًا تاريخيًّا في سوريا، على أصعدة مختلفة سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، بأن الأمور على وشك الخروج عن السيطرة وأن النظام على وشك الانهيار. هنا حصل، كما هو معروف، انخراط شامل وغير مسبوق لروسيا في الأزمة السورية، فتغيرت موازين القوى جذريًا لمصلحة النظام.
أما على الصعيد السياسي، فبدأت المحادثات في جنيف، ولاحقًا في أستانا وسوتشي، وخلال هذه المراحل الأخيرة، وبعد حادث إسقاط الأتراك للطائرة الروسية في الشمال السوري، بدأت مرحلة جديدة تختلف نوعيًّا عن كل ما سبق؛ فقد أصبح الثنائي الروسي - التركي اللاعبَ الأساسي، وربما الحصري، في التطورات اللاحقة حتى هذا اليوم في سوريا. وعلى خلفية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية العملاقة لكلا الطرفين، جرت إعادة صوغ كاملة للإطار السياسي، ولمحاولات إيجاد حل سياسي للكارثة السورية.
يبقى أن نشير إلى أن هذا الكتاب ثمرة خبرة أكاديمية علمية وعملية سياسية مركبة أيضًا طويلة للباحث منذر ماخوس، وغنية بالمعارف والتجارب، وبانخراط صاحبه في العمل الوطني الديموقراطي وفي الثورة السورية. وهو في هذا الكتاب يؤسس رؤيته على خبرته الطويلة والمتعددة المستويات في العلوم النفطية والاقتصاد السياسي.