شهد العالم بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة بانتصار الولايات المتحدة وانهيار الاتحاد السوفييتي، وتحقّق ما يُعرف بالأحادية القطبية، تغيرًا كبيرًا في مفهوم وطبيعة القوة، الأمر الذي ألقى بظلاله على إعادة مفهوم الدولة القومية والسيادة بشكلٍ عام؛ مما فتح الباب واسعًا لكتابة البحوث والدراسات التي اهتمت برصد التحولات والتحديات التي شهدتها الدولة في سيرورتها التاريخية.
شهد العالم بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة تغيرًا كبيرًا في مفهوم وطبيعة القوة، الأمر الذي ألقى بظلاله على إعادة مفهوم الدولة القومية
ومن هذه البحوث الحديثة ما تضمنه كتاب "الدولة نظريات وقضايا" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2019، بتحرير كولن هاي، ومايكل ليستر، وديفيد مارش، وبترجمة أمين الأيوبي.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الديمقراطية والبندقية".. دليل عملي للراغبين في إقامة الديمقراطية
يبدأ غيورغ سورنسن بحثه المعنون "تحوُّل الدولة" بالإشارة الى جدلية المفهوم، وعرض الحجج التي يستند اليها كل فريق؛ فريق التحول، والثبات، وفريق ثالث ينذر بالمخاطر التي سوف تصيب الدلة، إذ أن "هناك جدل شامل دائر منذ وقت في شان تحوُّل الدولة، جدل مدفوع بالعولمة الاقتصادية؛ إذ سارع مراقبون كثر إلى الإشارة إلى أن شبكات الاتصال الاقتصادية العالمية غيّرت الجوهر الاقتصادي للدول".
وهذا التطور الذي يشير اليه سورنسن أصبح يمثل تحديًا للمفاهيم التقليدية لكيان الدولة والمواطنة، مما يثير جدلًا جديدًا في شان الهوية والجماعة، وهذا ساعد بحسب سورنسن في الحث على تأملات جديدة في تكوين السيادة ومستقبل الدولة ذات السيادة، بعد أفول النموذج القديم للدولة القومية المحددة المعالم مناطقيًّا ، كما كان في أواسط القرن العشرين والذي هو كما يقول سورنسن لم يعد صالحًا في وقتنا الحاضر.
وظهرت مصطلحات ما بعدوية جديدة للإحلال محل مفهوم الدولة القومية ذات السيادة وهي: "ما بعد الوطنية" أو "ما بعد الصناعية" أو ما "بعد السيادية".
يخوض سورنسن غمار البحث من خلال الجدل الدائر في تحوُّل الدولة في النواحي الأساسية: الاقتصاد والتغيرات الاقتصادية، الجماعة، السيادة، ثم يقوم بجمع التغيرات المنوعة في كيان الدولة ويشير إلى كيفية تفسيرها بدلالة دولة من نوع ما بعد الحداثة.
التحول الاقتصادي: تأثيرات العولمة
يجري سورنسن في هذا الجانب مقارنة بين اقتصاد الدولة الحديثة وبين اقتصاد الدولة ما بعد الحداثة، فإن الاقتصاد في الأولى كان وطنيًا منفصل ومكتفٍ ذاتيًّا من حيث إنه يضم القطاعات الرئيسية اللازمة لإعادة إنتاجه، وأن الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي في داخل البلاد، أما شكل الاقتصاد في الثانية فإن الجزء الأكبر منه النشاط الاقتصادي مدرج في شبكات اتصال عابرة للحدود، وهنا يصبح الاقتصاد الوطني أقل اكتفاءً ذاتيًا من السابق.
الدول تحولت، كما الأسواق، بفعلِ أوضاع العولمة الاقتصادية، وصارت خاضعة لقيود جديدة في بعض النواحي
والخلاصة التي يصل إليها سورنسن هي أنَّ الدول تحولت، كما الأسواق، بفعلِ أوضاع العولمة الاقتصادية، وصارت خاضعة لقيود جديدة في بعض النواحي، ويستدرك سورنسن ويقول، "طورت أيضًا طرائق جديدة لتنظيم السوق" بمعنى أنَّ التحول الجاري يتضمن عناصر خسارة وربح للدول.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "المسألة الثقافية في الجزائر".. في الصراع الثقافي والهوية
التحول السياسي: نحو حوكمة متعددة المستويات
في التحول الثاني، ينطلق سورنسن من أن التعاون عبر الحدود آخذ في التطور بطرائق رئيسية ثلاث: في الأولى تتوسع العلاقات بين الدول، ولا سيما من خلال التعاون في المنظمات الدولية، وفي الثانية نمت العلاقات بين الحكومات ضمن بوتقة كثيفة من شبكات الاتصال السياسية، مما يجعل منحى تخطي الحكومات يتطور بسرعة ليصبح نمط الحوكمة الدولية هو الأكثر فاعليةً وانتشارًا. أما التطور الثالث والذي يؤكد سورنسن على اهميته فهو توسع العلاقات العابرة للحدود الوطنية، أي العلاقات العابرة للحدود بين الأفراد والجماعات والمنظمات في المجتمع المدني، ومن تجليات هذا التحول بحسب سورنسن هو أن عدد المنظمات غير الحكومية الدولية من 832 في عام 1951 إلى 5472 منظمة بحلول أواسط ثمانينات القرن الماضي، وهي غالبًا ما تشكّل جزءًا من شبكات اتصال سياسية عامة. وفي ظل هذه التطورات فإن سورنس يعتقد أن السياسية باتت تأخذ على نحو متزايد شكل الحوكمة الدولية أو العالمية، وهذه الحوكمة يعرفها سورنسن بإنها نشاط دولي وعابر للحكومات وعابر للحدود الوطنية، وتشمل المنظمات غير الحكومية والجهات الأخرى من غير الدول وليس الحكومات أو الوحدات الحكومية والمنظمات التقليدية فحسب.
وفي طور بروز نظام حكم عالمي فإن سورنسن يشير الى تغيرين مهمين مقارنة بمرحلة سابقة للحكومة الوطنية: الأول تزايد تشابك الحكومات في شبكة اتصال معقدة من المنظمات الدولية، تتعهد أمامها الحكومات بالتزامات منوعة، والثاني في أنَّ جهات كثيرة من غير الدول تؤثّر في عمليات الحوكمة، بمعنى أنَّ التنظيم والسيطرة ما عادا حكرًا على الحكومات.
ومن الأمثلة الواضحة التي يشير إليها سورنسن حول الحوكمة المتعددة المستويات هو الاتحاد الأوروبي، حيث تتفشى السلطة السياسية وتُزال عنها صبغةُ المركزية. وهنا يرى الباحثون أصحاب رأي انكفاء الدولة أنَّ الدول باتت أقل تأثيرًا ونفوذًا منها في الماضي، ويشدد القائلون بمركزية الدولة على أن الدولة تبقى مسيطرة. والحجج التي يستند الها أصحاب رأي الانكفاء هي أن التعاون بات كثير المطالب ويتضمن عناصر تتجاوز الحدود الوطنية وتؤثَّر في سيادة الدول، فما يصر القائلون بمركزية الدولة على أنَّ أغلبية نواحي التعاون تبقى تقليدية الطابع بحيث لا تزال الدول تُمسك بالدفة ويمكنها صد الضغط الذي تمارسه المنظمات الدولية.
والحجة الأخرى التي يستند إليها باحثو الانكفاء هي أن التعاون يجعل الدول أضعف بوجه عام، لأنه يجري تخصيص مزيد من السُلطات لجهات فاعلة أخرى، ومنها المنظمات الدولية، وعلى الضد من ذلك يرى القائلون بمركزية الدولة أن التعاون يُساهم في تقوية الدول؛ لأنه بالتعاون تمتلك الدول سُلطات تنظيمية ما كانت لتمتلكها لولاه في مجالات مثل التنظيم البيئي أو تثبيت العملة أو منع الجريمة.
الدول في طور تحوُّل، ربما يجعلها أقوى في بعض المجالات وأضعف في مجالات أخرى
والخلاصة التي يخرج بها سورنسن بعد عرض حجج كل فريق، هي إنَّ الدول في طور تحوُّل، ربما يجعلها أقوى في بعض المجالات وأضعف في مجالات أخرى، ويستدرك بالقول أنه يصعب حساب النتيجة النهائية سلفًا، علمًا أنها ستتفاوت تفاوتًا كبيرًا بين دولة وأخرى، وبين قضية وأخرى.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "التحولات الاجتماعية في دول الخليج العربية".. الهوية والقبيلة والتنمية
تحوُّل الجماعة
وفي هذا التحول يتطرق سورنسن الى مفهوم الهوية وبناءها في الدولة القومية الحديثة، وهي قائمة بحسب ما يذكر على نوعين من الجماعات، جماعة المواطنة المعنية بالعلاقات بين المواطنين والدولة (وهذا يشمل الحقوق والواجبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية) وجماعة الوجدان، وهي التي تتوفر فيها اللغة المشتركة والهوية الثقافية والتاريخية. ويساءل سورنسن هنا هل هذان النوعان من الجماعات في طور التحول وإذا كان الجواب بالإيجاب فأي شي يحلّ محلهما؟
فيما يخص جماعة المواطنة فإن سورنسن، يرى أنَّ أحد التطورات الرئيسية في هذه الناحية أن الحقوق المدنية وغيرها لم تعد تُمنح من الدولة ذات السيادة حصرًا، إذ حُدّدت مجموعة عالمية من حقوق الإنسان على المستوى العالمي. وقد أدى التعاون الوثيق في بعض السياقات الإقليمية إلى تبلور حقوق مشتركة للمواطنين في الدول المختلفة وهنا يشير سورنسن إلى معاهدة ماسترخت عام 1992 والتي أسست مواطنة الاتحاد الأوروبي والتي تنص أحد موادها: "يتمتع مواطنو الاتحاد الأوروبي بحق العمل والإقامة والضمان الاجتماعي في جميع الدول الأعضاء"، وهنا يحصل تحوُّل المواطنة نحو "عضوية ما بعد وطنية" بناء على حقوق الإنسان العالمية، وليس على الحقوق الوطنية النابعة من مواطنة قومية مشتركة وجماعة قومية ذات وجدان.
ويعطي سورنسن أحد الاحتمالات التي تحل محل الرابطة الوطنية القديمة التي تحل محلها هوية جمعية (فوق) الوطن، والتي تتضمن مجموعة من الأعراف والمبادئ أهمها الديمقراطية السياسية، والحكومة الدستورية، والحقوق الفردية، والنظم الاقتصادية المعتمدة على الملكية الخاصة، والتسامح مع التنوع في النواحي غير المدنية ذات الصلة بالأثنية والدين.
تحوُّل السيادة
وتحت هذا العنوان يشير سورنسن إلى مبدآن تنظيميان أساسيان في لعبة السيادة الكلاسيكية: مبدأ عدم التدخل ومبدأ المعاملة بالمثل. وفيما يخص مبدأ عدم التدخل فإنه يعني أنَّ للدول حقًّا في اختيار مسارها الخاص وإدارة شؤونها من دون تدخل خارجي، والمراد من المعاملة بالمثل، التعاطي بما يخدم مزية مشتركة. تُبرم الدول صفقات بعضها مع بعض... وليس هناك معاملة تفضيلية ولا تمييز إيجابي.
انحرفت الدولة عن المراحل التاريخية التي مر بها كيانها، من كيان الدولة الحديثة إلى كيان دولة ما بعد الحداثة، حيث جرى الطعن في المفاهيم التقليدية لسلطة الدولة
لكن تغيرًا طرأ على جوهر الدول لأسباب اقلها العولمة، فأصبحت الدول أقل ضبطًا وتنظيمًا، بما يجري داخل حدودها أو خارجها، تجليات عدم الضبط هذا يتمثل بالاتصالات الإلكترونية، ووسائل الاعلام، والتدفقات المالية العالمية، والمشكلات البيئية العابرة الحدود، والشركات العالمية متعددة الجنسيات، وذلك يعني كله أنَّ الدول تخضع لعملية انتقال تتجاوز السيادة أو انتقال نحو غسق السيادة.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "السياسة الخارجية التركية".. استراتيجية تعزيز الاستقلالية
وينقل سورنسن رأي الداعمين لأطروحة "غسق الدولة" ويحاول بيان الرؤية التي يستندون إليها، فهم يرون أنَّ أنماطًا جديدة للدولة في طور البروز، وهي تضع سُلطات تنظيمية في أيادي جهات فاعلة من غير الدول، وبهذه الطريقة يجري بالتدرَّج استبدال لعبة عدم التدخل التي تُبقي جميع السُلطات السياسية في يد الدولة ذات السيادة بلعبة مختلفة يسميها الباحثون "ما بعد السيادة"، حيث يجري توزيع السلطة السياسية على جهات فاعلة مختلفة كثيرة، وهنا الدولة ترزح تحت ضغط؛ لأنها تخسر احتكارها التقليدي للتنظيم والسيطرة السياسية.
والنتيجة التي يخرج بها سورنسن إن الدولة انحرفت عن المراحل التاريخية التي مر بها كيانها، من كيان الدولة الحديثة إلى كيان دولة ما بعد الحداثة، حيث جرى الطعن في المفاهيم التقليدية لسلطة الدولة، والتي لم تعد لقوتها العسكرية تلك الأهمية المبالغ فيها كما في الدولة الحديثة في ظل تعاظم دور مصادر القوة غير المادية وغير الملموسة بحسب سورنسن، وهذا التحوُّل في كيان الدولة يوفر قائمة ضخمة جديدة من التحديات التحليلية والجوهرية.
ويؤكد سورنسن في نهاية بحثه على أنَّ مسألة تحول الدولة وعواقبه، ستحتل مكانة بارزة في اجندتنا التحليلية مدة طويلة من الزمن.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "الدول والثورات الاجتماعية".. بنى وأصول التحولات
كتاب "الدولة العثمانية في عصر الإصلاحات".. هندسة سوسيولوجيا العسكر