لم تحظ قضية بالاهتمام الذي حظيت به القضية الفلسطينية منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين في أربعينيات القرن الماضي، ومنذ بداية الصراع يُنظر لمصر على أنها عنصر رئيسي فيه على كافة الجوانب، فمنذ المواجهة العسكرية الأولى مع الاحتلال عام 1948، مرورًا بحروب أعوام 1967 و1973، كانت مصر طرفًا أصيلًا في المعارك، كما كانت أحد الأضلع الرئيسية في مراحل المفاوضات المتعاقبة.
مرت العلاقات المصرية الإسرائيلية بمراحل مختلفة ومتباينة بشكل كبير مع تغير أنظمة الحكم في مصر، بداية من العهد الملكي تحت حكم الملك السابق فاروق، وحتى الوقت الحالي في ظل النظام الجمهوري تحت رئاسة عبد الفتاح السيسي. ولما كان التغير في الشأن المصري عاملًا جوهريًا في تغير شكل ومضمون الصراع العربي الإسرائيلي فإن ثورة يناير كان لها أثر كبير في تلك العلاقات، وهذا الصراع حيث أنها توصف بأنه الحدث الأهم في تاريخ مصر خلال العقود الماضية.
نظرًا لانحيازه إلى الصف الإسرائيلي، وصف بنيامين بن إليعازر حسني مبارك بأنه "كنز استراتيجي لإسرائيل"
في كتابه "العلاقات المصرية الإسرائيلية بعد ثورة 25 يناير" (مركز الجزيرة للدراسات، 2017)، يرصد الباحث الفلسطيني الدكتور صالح النعامي ملامح تغير هذه العلاقات خلال 4 فترات زمنية، تحت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، ثم عقب ثورة يناير وتحت حكم المجلس العسكري، وخلال فترة رئاسة الرئيس الأسبق محمد مرسي، ثم أخيرًا خلال حكم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي.
اقرأ/ي أيضًا: دور نظام السيسي في صفقة القرن.. لقاءات سرية واستثمارات و"علاقات دافئة"
في فصله الأول، يُحدد الكاتب ملامح العلاقات بين مبارك وإسرائيل التي ارتكزت على عدة نقاط هامة، تأتي في مقدمتها معاهدة كامب ديفيد التي وقعها الرئيس الأسبق أنور السادات، وهي بمثابة الرابط الأساسي في العلاقات، حيث التزم بها مبارك وكانت أساسًا لتقاربه مع إسرائيل عبر شراكات سرية وعلنية وتبادل للمنافع. وقد راعى مبارك خلال فترة حكمه الرأي العام الداخلي في هذه العلاقات، بعدم الظهور بمظهر الحليف المُعلن لإسرائيل رغم التبادل المنفعي الكبير بينهم.
مثّلت الولايات المتحدة ركنًا أساسيًا في هذه العلاقة نظرًا لقوة ونفوذ تل أبيب في واشنطن، واعتماد مبارك على الولايات المتحدة كأهم شريك دولي على المستوى السياسي والعسكري، إضافة إلى دخول قضية توريث جمال مبارك حكم البلاد التي احتاج فيها مبارك الدعم الأمريكي عبر النفوذ الإسرائيلي، بالإضافة إلى العداء المشترك للتنظيمات الإسلامية المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحركة حماس -المنتمية فكريًا للجماعة- في الأراضي الفلسطينية. وهو ما قابله انحياز مبارك لإسرائيل في القضية الفلسطينية سواء في المواجهات العسكرية أو المفاوضات، وهو ما أوجزه الباحث في اقتباسه من الوزير والقائد العسكري الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر عندما وصف مبارك بأنه "كنز استراتيجي لإسرائيل".
وبعد ثورة يناير، يرصد الباحث ملامح التوتر في العلاقات الناتج عن التغير الكبير في موازين القوى داخل مصر، والتي جاهد المجلس العسكري الذي تسلم الحكم من مبارك في ضبطها، وقد بلغ القلق الإسرائيلي من الثورة درجة غير مسبوقة خوفًا من تحول النظام الحاكم إلى نظام معادٍ إلى إسرائيل. وهو ما نتج عنه استنفار إسرائيلي ضد الثورة منذ بدايتها بمحاولة منع خلع مبارك ومحاولة التأثير على نتائج الثورة فيما بعد ذلك.
ساهمت عدة عوامل متضاربة في زيادة هذا القلق والتوتر في العلاقات. كان أهمها الاضطرابات المسلحة في سيناء حيث الحدود المصرية الإسرائيلية، والضغط الشعبي الذي يحمل عداءً لإسرائيل. ورغم تصاعد النبرة المعادية لإسرائيل شعبيًا إلا أن المجلس العسكري استطاع قدر طاقته الحفاظ على العلاقات، وخاصة التنسيق الأمني. إلا أن الكاتب رأى أن المشاكل الداخلية المصرية كانت الهم الأول والأكبر، ولم تترك فرصة كبيرة لتحول جوهري في العلاقات.
في فصله الثالث، يرصد الباحث ملامح التوتر الشديد بين تل أبيب ونظام الرئيس المنتخب محمد مرسي، ورغم العداء الأيديولوجي للرئيس من إسرائيل إلا أن الكاتب رأى أن عدة عوامل منعته من أخذ منحى أكثر عداءً لها، تمثل في مؤسسات النظام القديم والنظام الدولي الداعم لإسرائيل. لكن مجملًا يرى الكاتب أن نظام مرسي كان الأقل قربًا من إسرائيل والمنحاز بشدة للجانب الفلسطيني، وخاصة فصائل المقاومة وعلى رأسها حركة حماس. بالإضافة إلى الموقف الجاد إزاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2012، الذي تسبب في سحب السفير المصري من تل أبيب والاحتجاج الرسمي للسفير الإسرائيلي في القاهرة.
يرصد الكتاب ملامح الاستنفار الإسرائيلي تجاه نظام محمد مرسي، ومحاولة تقويضه دوليًا وإعلاميًا عبر عدة قنوات، وذلك بعد تقديرات باحتمال نشوب حرب مع مصر، تلك التقديرات التي أثرت سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي لزيادة المخصصات العسكرية واحتمالية تغير الوضع الإقليمي بالكامل.
وفي الفصل الأخير الذي أولاه الباحث الجزء الأكبر من الكتاب، رصد ملامح العلاقات بين نظام حكم عبد الفتاح السيسي وتل أبيب، والتي يمكن وصفها من خلاله بأنها الأقوى في التاريخ، حيث بدأت بحملات إسرائيلية قوية وشديدة لدعم تحرك الجيش لعزل محمد مرسي، ثم الدعم الدولي الكبير لتولي السيسي رئاسة الجمهورية، وصولًا إلى الدعم العسكري واللوجيستي للجيش المصري في قضايا التسليح والحرب في سيناء.
وصف مسؤول إسرائيلي التقارب مع نظام السيسي بقوله: "على الرغم من أننا نتكلم العبرية وهم يتكلمون العربية إلا أننا من ناحية سياسية نتكلم نفس للغة"
بلغت متانة هذه العلاقات مبلغًا غير مسبوق، وفق الكتاب، درجة مساعدة إسرائيل للسيسي في قضايا تسليح الجيش المصري والتخوف الشديد من مرحلة ما بعد حكمه، وذلك لما تتسم به العلاقات من تطابق عبّر عنها وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلية في زيارته للقاهرة في 28 حزيران/يونيو عام 2015، إذ نقل عنه الكاتب قوله "فوجئت تمامًا من التطابق التام في تصور كل منّا للتحولات في المنطقة، فعلى الرغم من أننا في تل أبيب نتكلم العبرية وهم في القاهرة يتكلمون العربية إلا أننا من ناحية سياسية نتكلم نفس للغة".
اقرأ/ي أيضًا: القضية الفلسطينية ووعي السينما المصرية
اعتمد الكاتب في بحثه بشكل أساسي على الإعلام والدراسات والتصريحات الإسرائيلية لإخراج هذا الرصد. إلا أن هناك بعض الملاحظات على ذلك ربما يكون أهمها تجنب أثر فترة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي وجماعة الإخوان -التي يمكن وصفها بالفاشلة - على القضية الفلسطينية داخل مصر، خاصة النظرة الشعبية لحركة حماس لانتمائها الفكري للجماعة، بالإضافة إلى ذكر الكثير من تفاصيل تصور مرسي والجماعة لحل القضية الفلسطينية بشكل أدق مع التعميم الذي اكتنف هذه الرؤية، خاصة مع تشابه بعض الإجراءات التي قام بها الرئيس الراحل وتجارب أخرى سابقة مثل سحب مصر سفيرها في تل أبيب، والذي حدث إبان حكم المجلس العسكري وحدث أيضًا مرتين خلال حكم حسني مبارك، إلى جانب تعيين مرسي سفير جديد لمصر في تل أبيب بعد توليه الحكم، وعدم طرد السفير أثناء العدوان على غزة، وكذلك التهوين الكبير من باقي النخب والتحركات الشعبية لمساندة القضية الفلسطينية منذ اندلاع الثورة المصرية وحتى منتصف عام 2013 مثل قوافل الإغاثة والمظاهرات الضخمة، في مقابل تغير كبير في لهجة وحدة جماعة الاخوان تجاه القضية مقارنة بفترة حكم مبارك، التي خرجت خلالها الجماعة في مظاهرات حاشدة لقطع العلاقات تمامًا وهو ما لم يحدث خلال حكم الجماعة.
اقرأ/ي أيضًا: