يعنون المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني مقدمة الطبعة الثالثة من كتابه "الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين، العثمانية والصفوية – القاجارية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2015) بـ"الحاجة للعلمنة" كما يرى قارئنا الكريم.
خلاصة الكتاب في ثلاث مقدماته
يأتي الكتاب في أربعة فصول، وثلاث مقدمات وخاتمة، بيّن في مقدّماته خلاصة فكرته من الكتاب في شرح ماهية العلاقة بين "الفقيه" كعالِم ديني في مؤسسةٍ وتطوره ضمن هذه البنية، والسلطان من جهة أخرى وعلاقته مع هذا الفقيه، وعن تحوّل هذه العلاقة في بعض الأحيان إلى "فقيه سلطان" التي أنتجت "الخمينية" -إن صحّ التعبير- فيما بعد.
في كتابه "الفقيه والسلطان"، يرصد وجيه كوثراني ماهية العلاقة بين "الفقيه" كعالِم ديني في مؤسسةٍ وتطوره ضمن هذه البنية، والسلطان من جهة أخرى
كما عالج قضية علاقة النظرة إلى العلمانية بين وجهتي نظر؛ الأولى الاستشراقية والثانية الإسلامية، ممثلتين بشخصيتي برنارد لويس ومحمد عمارة، لينطلق من هنا إلى اختلاف العناوين بين المعالجتين واتحاد المضامين، تمامًا كما يبين هذا الاتحاد الضمني بين التجربتين التاريخيتين السنية والشيعية في تناول تلك العلاقة بين المؤسسة الدينية المتمثلة بالفقهاء والحاكم السياسي المتمثل بزعامة الدولة السلطانية.
اقرأ/ي أيضًا: مبضع "الذاكرة والتاريخ" في القرن العشرين الطويل: معالم النقد عند وجيه كوثراني
تتلخص فكرة الكتاب في دراسة العلاقة المذكورة من خلال التمثيل عليها بأربعة نماذج اثنين من التاريخ الكلاسيكي من الدولتين العثمانية والصفوية، وآخرَيْن من التاريخ الحديث العثماني والقاجاري في إيران متمثلة بجمهرة من العلماء مواقفهم المتضاربة من السلطة، والمتوافقة في بعض الأحيان.
الظروف المُمهدة: الماوردي وما بعده وإمارة المستولي
في الحقيقة لم تبدأ العلاقة الشائكة بين الفقيه والسلطان في المثالين ضمن عنوان الكتاب كما يتضح، أي الدولة العثمانية ممثلة للمذهب السني، والدولتين الصفوية القاجارية ممثلة للمذهب الشيعي، بل ترجع إلى ما قبل ذلك، وهنا اختار كوثراني الدولة العباسية وهيكليتي البويهية والسلجوقية ضمن هذه الدولة للبرهنة على أطروحته في الفصل الأول، أي أنّه دراسة للظروف الممهدة.
إضافة إلى التماثل الذي يبينه كوثراني بين تنظيريّ "لويس" و"عمارة" وكذا بين خلافة السنّة وإمامة الشيعة؛ فإن التماثل الضمني في تجربتي الإسلام والمسيحية للحديث عن علاقة الفقيه بالسلطان هي أيضًا لا تخفي ظلالها من هذا التماثل، أي حتى لو انقلبت الحالة وسيطر السلطان من خلال "فقهاء التبرير" على الأجواء، بعكس التجربة الغربية، فإن كلتا الحالتين تحتاج لفصل معلمن يمنع طبائع استغلال الدين والسياسة في غير محلهما، كما يُشار لذلك.
كذلك قد تكون العلاقة بين الفقيه والسلطان تطورت وتمفصلت عبر زمن يسبق حتى بروز السلاجقة والبويهيين في الدولة العباسية، إلا أن هذه "البروز" له ما يبرره من ناحية كونه أظهر نوعًا من التنازع السياسي الموازي بين سلطات في الدولة -بالمعنى الخاص- متخالفة من جهة، ومن أخرى يؤثر بدوره على إعطاء شكل لعلاقة الفقيه بالسلطان وفتاويه يتنوع مع اختلاف وجود تلك السلطات.
مثّل على ذلك بأشهر أصحاب كتب الآداب السلطانية، أبو الحسن الماوردي، والذي سينحو بعده ما يشبه نهجه في "سياسة التبرير الفقهي" للسلطان الخليفة العباسي ثم للبويهي والسلجوقي، أي لم تقف العملية لإسدال الستارة الدينية على حاكمٍ متغلبٍ قتلَ آخرَ، بل أيضًا قد يكون هذا التبرير داخليًا، يقبل بوجود خليفة ولكنه يبرر لوجود سلطان متغلب في ظل سلطانٍ غائب لذاك الخليفة، قد يكون شيعيًا أو سنّيًا.
قد يختلف الفرق الظاهري بين تجربتي السنة والشيعة في الحكم التي يبرر لها فقيه مهما كان مذهبه لصالح السلطة الأقوى
من هنا نفهم أنّ الفرق الظاهري بين تجربتي السنة والشيعة في الحكم التي يبرر لها فقيه مهما كان مذهبه، قد يختفي -أي الفرق- لصالح السلطة الأقوى سواء أكانت سلطة شيعية تستغل وجود خليفة سني (البويهيين)، أو سلطة سنية تبرر تماهيها حماية الخليفة السنيّ من ذات جنس مذهبها (السلاجقة). ينير كوثراني مثل هذا الدور لدى كل من أبي حامد الغزالي ونظام الملك السلجوقي وفيما بعد لدى الحليّ بالنسبة للإلخانيين (في كتابه منهاج الكرامة) وابن تيمية لـ"خليفة الضرورة" الناصر (في كتابه منهاج السنة).
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "تاريخ التأريخ".. حفريات نقدية في اتجاهات التأريخ العربي ومناهجه
من فقيه السلطان عبر المذهبية حتى مشاريع الارتهان
في الفصل الثاني ينتقل لظروف نشأة دولة العثمانيين والصفويين والقاجاريين وبعد استعراضه لخلفية تاريخية مفصّلة، يبين الانقلاب الحاصل لطبيعة السلطان في جعبة الخليفة (دولتي السلاجقة والبويهيين) ليتحول إلى الخليفة السلطان (الحالة العثمانية والصفوية)، يعني أن الخلافة تضمحل لصالح السلطان، بعدما كان الخليفة الشكلي منبع الشرعية للسلطان المتغلب، وأصبح السلطان المتغلب له دور أوسع، وهذا بطبيعة الحال يغيّر من شاكلة علاقته مع الفقيه.
تتوسع الصراعات بين سلطاني السلاجقة والبويهيين على نيل شرعية الخليفة العباسي، إلى حالتين أشد اتّساعًا بتطورها إلى إمبراطوريتين ذاتي أطماع تمتد إلى التاريخ الحديث، وتصبح الآليات التي تحكم التنافس بينهما تحتمل عدة مستويات تنتقل من الأوضاع الاستراتيجية والاقتصادية، والتنافس على نيل التحالفات الدولية، وتغليفها بالإطار المذهبي، وأخيرًا نيلها بشرعية الديني الممثلة بالفقيه.
تجلّى هذا الغلاف الديني بجمع من الممارسات المتشابهة التي مارستها كلتا الدولتين، الصفوية والعثمانية، عند احتداد الصدام بينهما، مثل جلب العلماء للمركز للتأكيد على محورية ومركزية وشرعية الوجود الذاتي للدولة، فالعثمانيون جلبوهم من القاهرة -مثلًا- والصفويون من المراكز الشيعية (جبل عامل والنجف). يُضاف لذلك استثمار المراقد والقباب الدينية ومقامات الأولياء والعلماء في معادلة الشرعية والسيادة.
نادر شاه ودورٌ مفصليٌّ كاشفٌ
هنا يلقي الضوء على تجربة فريدة كاشفة، كما بيّن وجود تمحور في تجربة العباسيين مع كل من السلاجقة والبويهيين، يتحدث عن الطور البيني الذي مرّت فيه الدولة الشيعية بين الصفوية وقبل القاجاريين، هي الدولة الأفشارية مع نادر شاه في القرن الثامن عشر الذي حاول الحصول على دور سني – شيعي.
يبين كوثراني الدور الذي طمح إليه نادر شاه في توحيد ومزج المذهبين الشيعي والسني بالاشتراك مع محمود الأول العثماني، أن مثل هذه التجربة تتحدث بالكثير، فهي تبدأ بكشف الستار عن هيئة الحاكم السياسي (نادر شاه) الذي يريد إمرار أهدافه البرغماتية -إن صحّ التعبير- فوق المذهبية، ولا تنتهي بالخوف من زوال الشرعية السنية لدى محمود وعلاقته بنخبتي الجيش والفقهاء العثمانية.
وأشار إلى أن هذا التماهي بين الديني والسياسي والذي يولد المذهبية على نطاق واسع لم يزل مستمرًا إلى يومنا هذا، والذي يسير في نوع من المتسلسلة "إنهاك فارتهان [للاستعمار] فضعف فانحلال"، يعني أن كوثراني يريد القول إن انكشاف الدولتين على مدى عريض أمام المشاريع الاستعمارية والقوى الدولية ليس ابتداءً من روسيا وليس انتهاءً بالحرب العالمية، بل يمكن إرجاعه أيضًا إلى القرن الثامن عشر.
مؤسستا السنة والشيعة من التاريخ الكلاسيكي حتى الحديث
ينتقل كوثراني في الفصلين الأخيرين لبيان الطرح العملي لتنظيره السابق من خلال مجموعة من النماذج لفقهاء في المؤسسة الدينية وأولئك المتنازعين معها، حيث تبلورت هذه العلاقات بعد خبرة قرون بشكل يكشف العلاقة بينهم والهيئة الحاكمة.
يختتم كوثراني الكتاب بنتيجة النظر في مختتم تجربتي السنة والشيعة لدى كل من رشيد رضا والنائني، للحديث عن الفقيه المنادِد لعالِم السلطان
بالنسبة للحالة العثمانية، يعتبر كوثراني ابتداء وجود مأسسة لهذه العلاقة بشكل محوري مع شيخ الإسلام في عهد السلطان القانوني لينتقل إلى علاقة أبو الهدى الصيادي مع حاكمه كمثال من التاريخ الحديث.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "إشكالية الدولة والطائفة والمنهج": ترميمُ الذاكرةِ في دولةِ المؤرخين
بالطبع يلقي الدور على فقهاء آخرين لهم هوى مختلف عن ذاك الهوى السنّي الذي تؤكد عليه السلطة الحاكمة آنذاك، ويتّخذ الشهيد الثاني زين الدين بن علي كمثال معاصر للقانوني، وبالنسبة للتاريخ الحديث فينتقل لمجموعة من الأسماء كان يصطلح عليهم أنّهم يمثلون الإصلاح الإسلامي بأطيافه، حيث كان الخلاف بين فقهاء السلطة وفقهاء قاعدة المجتمع أعقد عن ذي قبل، ولا يتلون فقط بالتسنن أو التشيع.
من تلك الأسماء تعامل عبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا مع السلطة. وفي كلا الحالتين، أي الكلاسيكية والحديثة، يبين المؤلف أن هنالك مجموعة من الآليات نتجت عن هذه العلاقة منها التبرير والتغلب والاستيلاء وإقفال باب الاجتهاد واستغلال الحاكم للشرعية الدينية، وتشريع الفقيه للسلطة، وهكذا يخوض كوثراني في كل من هذه الأطروحات في بيانها ونقد تفاصيلها.
في الحالة الشيعية، وإن كانت لا تختلف في جوهرها عن الحالة السنية، كونها توصلت إلى النتائج ذاتها، في ترسيخ الوضع الراهن للحاكم، وتكريس الهيئة الدينية لوجودها، إلا أنّه كما يظهر كانت حالة لها جوانب متعددة مبنية على الاختلاف في الفقه الشيعي عن السني، ولكنها أدّت إلى طرح ذات الميكانيزمات (الآليات) للعلاقة بين الحاكم والشيخ.
كما أن خصوصية الحالة الشيعية كانت تحوي اختلافًا جغرافيًا في ثلاث مناطق لمرجعيات آنذاك، سببت قلقًا للطرفين (العثماني والصفوي)، "قُمّ" تحت النفوذ الإيراني الخالص، وجبل عامل تحت النفوذ العثماني الخالص، وبينهما مناطق نفوذ العراق المترددة المتوترة، وبيّن كوثراني استعمال الرمزيات الدينية لصناعة أيديولوجية الدولة من قبل سلاطين وشاهات الطرفين.
طرح مجموعة متنوعة من الأمثلة لفقهاء الشيعة من الممثلين للسلطة وحتى المتنازعين معها، هؤلاء هم الكركي والمجلسي ممثلين للتدين الرسمي، بهاء الدين العاملي والملا صدرا الشيرازي ممثلين للتدين المستقل، والحر العاملي كممثل لنوع من المنازعة مع التيار العام، بالطبع هنالك عوامل مختلفة تجعل من هذه التيارات تتناقض منها نظام التعليم في المراكز العلمية وقوة مراجع التقليد ونمط الاتجاه العقلي والإخباري وعلاقة هذا مع التبرير للسلطة القائمة والانتفاع منها.
بالنسبة لأمثلة التاريخ الحديث في الحالة الشيعية فيأتي كوثراني بالحديث عن الميرزا محمد حسن الشيرازي والمصلح جمال الدين الأفغاني -عمومًا- وأيضًا محمد حسين النائني وموقفهم من قضايا الحكم المعاصرة والدستور والثورة على الحاكم ونظام الحكم المختلف فيه والأقرب للصالح العام وغيرها من القضايا التي أثارت علاقة الحاكم والفقيه على صعيدي الموافقة والمخالفة.
في الخاتمة كنتيجة وفشل المسألة الديموقراطية
يختتم كوثراني الكتاب بنتيجة النظر في مختتم تجربتي السنة والشيعة لدى كل من رشيد رضا والنائني، للحديث عن الفقيه المنادِد لعالِم السلطان، ذاك الفقيه المجتهد الذي يعتبر بتجسّد الفكرة الدستورية الحديثة من أصل الإسلام، بحيث لم ينجح وقتذاك هذا الدور وبقيت السلطة هي الحكم النهائي ليستمر هذا النزاع ليومنا هذا.
تمخّضت العلاقة بين الفقيه والحاكم عن دولة حديثة فشلت فيها "المسألة الديموقراطية"، بفوز الدولة المُقرّة لـ"تدابير علمانية حادّة" أو تلك الخالطة شكليًا للإسلام مع الدولة الحديثة
تمخّضت العلاقة بين الفقيه، كعالِم سلطان، والحاكم عن دولة حديثة فشلت "المسألة الديموقراطية" فيها، أو بتعبير دارج، فشل مشاريع التحول الديموقراطي وقتذاك، بفوز الدولة المُقرّة لـ"تدابير علمانية حادّة" أو تلك الخالطة شكليًا للإسلام مع الدولة الحديثة وإنتاج أساليب الضبط والقمع في سائر الحالات؛ مع تأكيد الفقهاء المضادّين لعلماء السلطان اندثار الوجود الكلّي لماهية الخلافة الجامعة لصالح مشاريع تفتيتيّة.
اقرأ/ي أيضًا: حزب الله ومسألة الدولة المدنية وولاية الفقيه والطائفية السياسية
أقرّ هؤلاء الفقهاء المجتهدون أن دور الفقيه سواء أكان "مرجع تقليد" أو "قوّة عاصمة"، بتعبير النائني، أو كان مفوضًا دستوريًا يتمثل بكونه مُصلحًا يسعى قدر الإمكان لمواجهة الاستبداد في السلطة لدى استيلاء السلطان وتغلب حزبه من الفقهاء، أو مواجهة الفقيه المتسلطن ضمن توازن في معادلة، يشكل هدفًا في التاريخ ولا يزال.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين".. تشريح المكان والتاريخ