وقعت في مراهقتي فريسة لنوع من الكتب، هو مثل كل أهواء المراهقة: ممتع ومثير وضار للغاية.. تلك الكتب التي اعتادت نبش سير الأدباء والكتاب بحثًا عن الفضائحي، والشاذ، والمستهجن، وصولًا إلى إثبات أن وراء كل أدب عظيم عاهة نفسية وأخلاقية كبيرة، أو أن عملية الخلق الأدبي ما هي إلا نوع من الاحتيال والنصب، يقوم فيها المبدع بإنتاج عكس صفاته، ما يريد أن يكون والنقيض تمامًا لما هو كائن.
يلتقط بول جونسون في كتابه "المثقفون"، بذكاء لافت، تلك المفارقات والتناقضات التي تزدحم بها سير الأعلام من ضحاياه
لا أعرف بالضبط ما العزاء الذي كنا، أنا والبعض من أصدقائي، نجده في هذه الصفحات المسودة بالحنق؟ ربما كانت تساعدنا في التنفيس عن غضبنا من العالم، العالم برمته. ربما كانت تريحنا إذ تخبرنا أن لا قداسة لأحد، وأن كل الكبار يخدعوننا ويهزؤون بنا، فلنفعل نحن إذن ما يحلو لنا.
أيًا يكن فقد احتجت إلى سنوات حتى تبرد النار المضطرمة في أعماقي، وأشفى من إدماني، ولعلي بالغت في رد الفعل، فلم أتخل عن تلك الكتب "الفضائحية" فقط، بل أن كل الكتب التي تُعنى بسير الكتّاب وحياتهم الشخصية لم تعد تعنيني البتة، وصارت النتاجات الإبداعية هي ما أرغب في قراءته واستكشافه، هي ما يثير فضولي.. بالطبع مع وجود استثناءات: "كتب سير" متزنة بأقلام موهوبين تسعى إلى كشف وجودي للعالم وللنفس البشرية، تمامًا مثلها مثل الروايات العظيمة.
لكن من بين الكتب التي اعتادت تهشيم صور الرموز والأسماء الكبيرة، والتي شفت غليلي سابقًا، لا أزال حائرًا إزاء كتاب واحد. لم أستطع تبنيه تمامًا ولا لفظه تمامًا. هو ليس كتابًا فضائحيًا بالمعنى المبتذل، ولكنه في الوقت نفسه ينطوي على قسوة واضحة، وميل شديد إلى كشف "العورات". كتاب أفكار يحسن الجدال والمناقشة والتمحيص واستعراض النتاجات، ولكنك تحس أن الهدف وراء كل ذلك يتلخص بالقول: إن المثقفين، معظم المثقفين، كاذبون مزيفون مدعون..!!
صدر كتاب "المثقفون" لـ بول جونسون في أواخر الثمانينات، وصدرت ترجمته العربية في أواخر التسعينات (دار شرقيات، ترجمة طلعت الشايب). ولقي وقتئذ بعض الرواج، ويبدو أنه صدم كثيرين كما شفى غليل كثيرين.
يحمل جونسون ساطور جزار لا يرحم، يغرز ويطعن ويقطع ويفصفص، ولكنه، للمفارقة، يتمتع بخفة ظل وهو يفعل ذلك. يلتقط بذكاء لافت تلك المفارقات والتناقضات التي تزدحم بها سير الأعلام من ضحاياه. أسلوبه مزيج بين الناقد المفكر الممحص والصحفي المشاكس الرشيق الذي يتقن السخرية وسوق القفشات.
يحمل سجلًا سميكًا لكل شخصية، ويضعه إزاء كتبها ونتاجاتها، لنقف أمام اثنين مختلفين بل متناقضين، أحدهما يفعل عكس ما يقوله الآخر.
كارل ماركس، هنريك ابسن، تولستوي، همنغواي، بريخت، برتراند راسل، سارتر.. وآخرون. جميعهم يلتقون عند قواسم مشتركة، أبرزها أنهم لم يكونوا صادقين، وأن هوة كبيرة فصلت حياتهم عن أعمالهم. كتبوا خلاف ما عاشوا، وروجوا في كتاباتهم لنقيض ما آمنوا به حقًا ولما عاشوه فعلًا.
ماركس الذي أسس لحلم الشيوعية كان ـ حسب جونسون ـ أنانيًا وذا ميل إلى استغلال الآخرين، والعيش على تعبهم. وكان عنيفًا في النقاش والجدال، متسلطًا متعصبًا لرأيه، ويضيق بالرأي المخالف.. وحتى كتاب "رأس المال"، درة ماركس وفخره الأول، لم يكن الكتاب الصافي من الشوائب، من الغش والتدليس! لقد لعب ماركس بالمقبوسات وزيف الاستشهادات، واقتطع من السياق، واعتمد مصادر قديمة عفا عليها الزمن.
والأهم أن الفيلسوف الذي تحدث كثيرًا عن البروليتاريين الذين كانوا ينالون أجرًا قليلًا، نسي أن يتحدث عن واحد لم يكن يأخذ أجرًا بالمرة: خادمته. وفوق ذلك تؤكد معلومات جونسون أن ماركس عاشر المرأة المسكينة وأنجب منها ولدًا "فريدي" ظل ينكره طيلة حياته!
بريخت كان بدوره، حسب جونسون، آلة دعاية وترويج غاية في الاتقان، نجحت في إخفاء سلوكه الحقيقي فترة ليست بالقليلة. كان يلبس بدلة عمال فيما هو يحرص على مضاعفة حساباته البنكية في سويسرا. لم يرض، وهو الشيوعي المتحمس، أن تحتكر حقوق نشر أعماله أي دار في العالم الاشتراكي، بل فضل ألمانيا الغربية التي تدفع دورها أكثر. وكان بريخت فظًا في استغلال النساء اللواتي تحلقن حوله. كان يرغب أن يكون ديكًا متسلطًا لا ترد له كلمة، وسجله في هذا الشأن حافل بالفضائح والحكايات الغريبة.
تولستوي كاتب عبقري، ولكن الكتابة كانت على هامش حياته، فالرجل أراد أن يكون مصلحًا اجتماعيًا عظيمًا، نبيًا من نوع ما.. وعدّته في ذلك هي تعميمات أخلاقية، وتهويمات مجردة، سرعان ما تحطمت عند أول احتكاك بالواقع. وهنا أيضًا نقف أمام التناقض إياه: يريد تولستوي الخير للعالم أجمع، للإنسانية كلها، ولكنه لا يستطيع تقديم شيء ذي بال لفلاحي ضيعته التي كان يملكها!
برتراند راسل الذي قدّم النصح للقراء على مدار حياته، وفي كل شيء تقريبًا، في السياسة والدين والزواج والأخلاق والعمل.. كان عاجزًا عن إدارة أبسط شؤون حياته، كما كان منفصلًا عن المقربين منه..
ينسحب ذلك بدرجات متفاوتة على الآخرين، والكلام يجري على هذا المنوال تقريبًا. معلومات غزيرة، وعرض يوازي بين الأفكار والسلوك.
معظم المثقفين لا يتاح لهم العيش بامتلاء واختبار كثير من جوانب الحياة، ذلك أنهم مشغولون بالقراءة والكتابة!
ولكن ليس هذا هو المهم، وليس هذا هو الذي يدفع إلى التأني في نبذ الكتاب، فثمة فكرة ذكية يطاردها المؤلف في سير الأسماء المنتقاة، وتقول إن معظمهم كانوا ينطوون على هذا العطب: يملكون معرفة نظرية عظيمة مقابل معرفة عملية متواضعة. ينافحون عن الإنسانية جمعاء دون أن يكون لهم علاقة أو معرفة حقيقية ببشر حقيقيين، يدافعون عن الفقراء وهم لا يعرفون فقيرًا واحدًا، وإذا عرفوه فإنهم يسيئون معاملته.. وهم بالمجمل يفضلون الأفكار على البشر!
ولماذا يبدو هذا العطب كمتلازمة لدى الكثير من المثقفين؟ سؤال لا يقدّم الكتاب إجابة حاسمة له، ولكن لنتذكر تلك الحكمة التي رد بها الرومان على شغف اليونانيين بالفلسفة النظرية: "عش ثم تفلسف". ولعل مكمن العطب هنا: معظم المثقفين لا يتاح لهم العيش بامتلاء واختبار كثير من جوانب الحياة، ذلك أنهم مشغولون بالقراءة والكتابة!