ينطوي كتاب "المرأة في العصور الوسطى الإسلامية" (الشبكة العربية للأبحاث، 2014) الذي أشرف على جمع وتحرير مقالاته الثلاثة والعشرين غافن هامبلي، أستاذ الدراسات التاريخية في جامعة ميثود الجنوبية الأمريكية، على أهمية قصوى. ذلك أن صاحبه لا يتصدى لدحض الصور النمطية التي حاول السفراء والرحالة الأوروبيون أشاعتها عن النساء المسلمات على النحو الوارد في وصف أحد الرحالة الإنجليز لنساء مكة نهاية القرن السادس عشر "النساء في هذا المكان لطيفات مرحات، جميلات ذوات أعين مغرية، ملهبات شبقات ومعظمهن شقيات منتقبات" وحسب، بل لبيان الحضور الفاعل لهن في جميع مناحي الحياة، سواء تلك المتعلقة بقضايا الحكم والإدارة العامة، في تصدرهن المشهد كمستشارات موثوقات لأب أو أخ أو ابن، على النحو الذي عرفهن به في العهدين التيمورلنكي كما الصفوي، أو كوصيات على العرش كالملكة الصليحية في اليمن، أو كملكات مستقلات كشجرة الدر في مصر، ورضية إلتتمش في الهند. أما في حال توجيه المرء أنظاره لرصد دورهن الفاعل في الحقل الديني، فيعثر عليهن كمتصدرات للمشهد الصوفي وكقطب من أقطابه الكبار التي قد يبدأ من رابعة العدوية ولا تنتهي بفاطمة الرضية في بغداد. هذا ناهيك عن دورهن الفاعل في إدارة الأوقاف في كل من دمشق والقاهرة في العهد المملوكي، وصولًا لتربعهن على عرش المشهد الثقافي كما في ظاهرة الشاعرات المبرّزات في هرات التيمورية، أو تربعهن على المشهد السياسي في العهد الصفوي وعلى المشهد العمراني في زمن الأباطرة المغول في الهند.
العويل.. المرأة المسلمة من الرثاء إلى الاحتجاج
في الفصل الثالث من الكتاب يأخذنا ديفيد بينو، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة سناتا كلارا، إلى الدور المركزي الذي لعبته المرأة المسلمة في الأدب الشيعي، لا من حيث دورها كبكّاءة أو نوّاحة في تبجيل مآثر شهداء آل البيت على الرغم من أنف سادة البيت الأموي، بل من حيث تطابق أصوات تلك النسوة وأحوالهن مع أحوال الجماعة الشيعية ذاتها في الحزن والمقاومة. فبموجب هذا الأدب الديني حولت فاطمة الزهراء من رمز للحزن الأكبر، التي عانته جراء فقدها لأبيها، إلى رمز من رموز الخلق الكبرى فاقت في قيمتها الوجودية حواء أم البشر ومريم بنت عمران، وما ذلك إلا لأنها اختيرت لتكون صلة الوصل بين الرغبة الإلهية وأئمة الحق الإلهي المتجسد بأولاد علي أحفاده من بعده.
في الأدب الشيعي، تطابقت أصوات النسوة وأحوالهن مع أحوال الجماعة الشيعية ذاتها في الحزن والمقاومة
وبموجب نفس الأدب تم التماهي بين ذات زينب أخت الحسين التي أضحت رمزًا للقوة في لحظة الحزن، ورمزًا للتمرد والمقاومة في لحظة الضعف، مع ذات الجماعة الشيعية التي آلت على أن تنذر نفسها للحزن والمقاومة معًا. أما للحزن فبقصد التكفير عن خطيئتها الأصلية بعدم المبادرة لإنقاذ إمامها الحسين من المصير المؤسف الذي آل إليه على يد الأمويين الأشرار، وأما للمقاومة فبقصد وضع نفسها في موضع الجماعة المنذورة لمقاومة القبح الكوني المتمثل بيزيد وأبيه معاوية، لدورها الشرير في اغتصاب حق أئمة آل البيت في حكم المسلمين، وتدبير شؤونهم على هدى الشريعة التي جاء بها النبي محمد عليه السلام.
اقرأ/ي أيضًا: نضال المرأة الفلسطينية.. جهد مركب على جبهات متعددة
من النواح على الطريقة الجاهلية التقليدية في رثاء الموتى وتعداد مناقبهم كما تجلى في نواح زينب بنت علي، إلى تحوير مضامنيه على يد مبدعي الأدب الشيعي وتغيير دفته الي جعله نوعًا من أنواع التضامن الجماعي، الذي يربط بين أفراد جماعة مستضعفة وجدوا أنفسهم وجهًا لوجه أمام مواجة خطري المحو الجسدي والسياسي، يجد المرء نفسه أمام مقصد جديد من مقاصد العويل كما تقدمه لنا الملحمة الفارسية الشهيرة "الشاهنامة" للفردوسي والمعروفة عربيا بـ"كتاب الملوك". فعلى الضد من الغاية التي توخاها الفردوسي من نظمه لهذه الملحمة الشعرية، عبر تمجيده الموت البطولي لجماعة الفرسان والجنود في ميدان المعركة، في نية مبيتة منه بإلحاقه بالجميل الباذخ الذي يرى في البطولة والموت في سبيلها نوعًا من أنواع الجمال المحض، الذي لا يدانيه جمال، على الرغم من الطابع المأساوي المتمثل بمشاهد الفقد والخسران، وما يصدر عندها من أحزان لا تشفى في صدور الأمهات والزوجات والأبناء.
فقد ذهب الباحث أولجا ديفيدسون مذهبًا آخر كشف فيه، عن جملة الاعتراضات المتضمنة في نواح "تهمينة" على ابنها "سهراب" الذي قتل على يد أبيه "رستم"، على القيم البطولية السائدة في المجتمع الفارسي. فبعد أن يبدأ النواح بلوم الأب القاتل، نراه يبدأ بلوم الابن سهراب الذي لم يلق بالًا لنوعية الأحزان التي يمكن أن يتسبب بها لقلب أمه في حالة موته المبكر في ساحات الوغى. وبدل أن ينتهي في مشاركتها في استعراضات المباهاة أو المفاخرة الكاذبة، التي تستقوي على أحزان القلب المكلوم، بمشاعر الفخر المتولدة من إعادة التذكير بسردية موته البطولي، كما في مشهد تسليم وتسلم أدوات حربه لأحد أصدقائه الحميمين، ليمضي في الطريق الذي مضى فيه الفقيد. تقف تهمينة على الضد من كل ذلك، عبر لجوئها للنيل من كل الرموز البطولية التي تخص ابنها، حصانه ودرعه، حيث تلجأ لقص ذيل الأول بقصد تحويله لحصان جر، وبيع الثاني على شكل خردة كي تذهب قيمته النقدية إلى يد الفقراء.
الحجاب بين الحماية الشخصية والعزل الاجتماعي
في بحثها المسمى "النساء المحجوبات"، تكشف إيفون سنج عن سذاجة الصورة النمطية التي حاول المراقب الإمبراطوري هانز ديرنشفام ترسيخها في الذهن الأوروبي عقب زيارته لإسطنبول عام 1533م، زمن حكم السلطان سليمان القانوني، ذلك أنه استقى استنتاجاته عن عزلة وكسل وتبطل نساء إسطنبول من خلال مخياله الخلاق عن نساء يحتجبن خلف طبقات سميكة من الأقمشة والجدران العالية، دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن نشاطهن الحقيقي في الحياة، ذلك النشاط الذي كان يمكن أن يعثرعليه في سجلات المحاكم التي تظهر النساء كمشاركات في التجارة المحلية، بائعات ومشتريات، سواء بأنفسهن أو عن طريق وكلاء، مقترضات أو مقرضات لتمويل مشاريعهن المتعلقة بفعاليات الاقتصاد المنزلي.
تكشف إيفون سنج عن سذاجة الصورة النمطية التي حاول المراقب الإمبراطوري هانز ديرنشفام ترسيخها في الذهن الأوروبي عقب زيارته لإسطنبول عام 1533م
أو تلك التي تظهر كفاحهن في الحياة القاسية، التي تدفعهن لأن يجدن أنفسهن في قاعة المحاكم، سواء من أجل فض النزاعات اليومية المتعلقة بتثبيت حق لهن ضد إحدى العاملات التي أخذت على عاتقها تنظيف ملابسهن، أو تلك التي قامت بسرقة ملابسهن الفاخرة أثناء تواجدهن في حمام السوق، أو تلك التي تتجاوز المشاغل اليومية لتطال التحقيق في مقتل ابن أو ابنة، أو الدفاع عن أنفسهن ضد تهم الخيانة الزوجية الموجهة إليهن، أو مقاضاة من يعترض سبيلهن أثناء مرورهن بشوراع المدينة.
اقرأ/ي أيضًا: المرأة كأيقونة للثورات العربية
إذا كانت نساء إسطنبول المحتجبات خلف البراقع والجدران العالية قد أثرن خيال الرحالة الأوروبين عن العزلة الاجتماعية المؤدية للكسل والتبطل، فإن حاميات حريم السلاطين العثمانين المعروفة عربيًا بالحريم وتركيًا بالسراي، كما حريم سلاطين الممالك المغولية في الهند المعروفة فارسيًا باسم "الزنانة"، قد ألهبت خيال الرحالة أنفسهم ليطلقوا عليها اسم "بيت السعادة"، ذلك البيت الذي عد خصيصًا لملاقات رغبات السلطان وشهواته الشيطانية، في جو من النساء المحرومات الشبقات، اللواتي لا شاغل يشغلهن سوى ممارسة الفجور والفسق مع الخدم القائمين على خدمتهم، أو مع الطواشي أوالخصيان المكلفين بحراستهن.
إلا أن طبيعة الأحداث التي عمل على تمحيص وقائعها الباحث غافن هامبلي تنفي ذلك، فلقد كانت الزنانة المغولية لسلاطين الهند أشبه بالقصر الملكي الذي يحتوي على جميع أفراد العائلة المالكة من أم الملك وزوجات أبيه السابقات، أبنائه الذين هم في سن الطفولة وبناته غير المتزوجات كما أحفاده، هذا ناهيك عن عماته وخالاته، مضافًا إليهم حريمه ومحظياته والرهط الكبير المخصص لخدمتهن. فقد قدر حجم زنانة الإمبراطوي المغولي أكبر (1556 ـ 1605) حسب أمين سره أبا الفضل بخمسة آلاف امرأة، كان لكل منهن مكان خاص بها. في الوقت نفسه الذي لم يكن فيه ذلك التجمع السكني الضخم منقطعًا عن العالم الخارجي، فقد كان قبلة للزائرات من جميع الأصناف؛ الصديقات، والعرافات، والشاعرات، والموسيقيات، والراقصات والحرفيات، والبائعات المتجولات. الأمر الذي جعل منه أشبه بالقلعة الحصينة التي يتناوب على حراستها ما يقارب الألف من النساء المحاربات، الذي كانت تقع على عاتقهن مهمة حماية ثروات الإمبراطور الموزعة على نسائه على شكل عطاءات وهدايا، كما حماية الإمبراطور نفسه، أثناء تواجده في مخدعه الملكي أو نظره في شؤون حكمه.
المرأة المسلمة كرائدة في الشعر كما في السياسة
في كتابه "جوهر العجائب"، أورد فخري هرات مقتطفات أشعار ما يقارب العشرين شاعرة مبرّزة من اللواتي عشن في العهد التيموري ومن بعده الأوزبكي 1517 م، يعود نسب الكثيرات منهن إلى عائلات نبيلة ذات صلات عميقة بالثقافة والفكر، وقد عرف منهن السيدة جمالي التي يرجع نسبها إلى الشاعر الكبير مولانا هلالي، كما عرف منهن الشاعرة آتون التي يرجع نسبها إلى شيخ عذاري، أحد أهم شعراء ومتصوفي القرن الخامس عشر الميلادي. على العكس من ذلك فقد أدى تعلم نساء البلاط الصفوي إلى جانب استقلالهن المالي إلى ميلهن العميق للسياسة، فقد لعبت شاهزاده سلطانم دور المستشارة وحافظ أسرار أخيها الشاه طهماسب، متسلهمة ذلك من الدور السياسي الكبير التي لعبته أمها في حياة أبيها الشاه إسماعيل الأول، والتي لم تتفوق عليها في ذلك سوى خير النساء بيجام، زوجة الشاه محمد خدابنده، التي أنفردت في حكم الإمبراطورية الصفوية طيلة 17 عامًا، إثر إصابة زوجها بمرض في عينيه أقعده عن ممارسة مهامه كإمبراطور.
أما في المقلب الآخر من البلاط المغولي ـ الهندي فقد بزّت الجميع جهان آرا بيجم، ابنة الشاه المغولي شاه جهان آباد، فإضافة للقدر الكبير من العلم التي حصلت عليه، كتعلمها القرآن ومن ثم كتابتها الشعر باللغة الفارسية، فقد كانت مقربة أبيها الشاه، كما المدبرة لشؤون جميع إخوتها الذين أشرفت على تزويجهم بنفسها. هذا ناهيك عن اهتمامها بالأعمال المعمارية في عاصمة أبيها شاه جهان آباد التي وصلت إلى الخمسة مرافق، توزعت ما بين قصر وحديقة عامة ونزل وحمام من أصل الـ 19 بناء التي أشرفت على بنائه النساء المغوليات، في حين لم يتجاوز عدد المباني التي تولت بناءها النساء الصفويات في "أصفهان" الـ 9 مباني كان نصفها بالنصف مخصصًا لدور العبادة، الأمر الذي يعكس الطابع الورعي لسلوك تلك النسوة في ذلك العهد.
ظل الموقف من المرأة في بعض جوانبه متقدمًا في الدولة العثمانية بسبب النفوذ الواسع لاتباع الطريقة البكداشية
لا يمكن لقارئ هذا السفر الكبير إلا أن يحيّي الروح التي كتبت به أبحاث هذا الكتاب، التي أماطت اللثام عن الكثير من الصورة النمطية المشوهة التي لحقت بالنساء المسلمات التي كنّ يعيشن في جو من الثقافة الذكورية المهيمنة. فلقد أضاءت تلك الأبحاث من حيث لا تحتسب على الطريقة التي تم فيها دمج العقائد الإسلامية التوحيدية في معتقدات الأقوام المغولية والتركمانية، دون أن ينسحب ذلك على دمج التصورات الاجتماعية العربية الإسلامية الخاصة بتوزيع الأدوار المجتمعية بين كل من الرجل والمرأة، لجهة قوامة الرجال على النساء في الشأنين الخاص والعام.
اقرأ/ي أيضًا: "فوغ آرابيا".. مزيد من تنميط المرأة العربية
الأمر الذي انعكس إيجابيًا على دور النساء المغوليات أو الفارسيات في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية، جراء هيمنة تقاليد الرعاية الأمومية عند الشعوب المغولية كما التركية، التي كانت لا تتحرج من الاعتراف بالأدوار السياسية للنساء المغوليات في ظل الحضور الذكوري الطاغي، إلى الدرجة التي جعلت كل من شجرة الدر في العهد المملوكي، ورضية إلتتمش في سلطنة الهند المغولية؛ تتجرأان على مباشرة الحكم بأنفسهن، دون الاضطرار للاحتجاب وراء بدعة الوصاية على العرش.
على الرغم من الطابع الذكوري للقبائل التركية المشكلة للإمبراطورية العثمانية، فإن الموقف من المرأة ظل في بعض جوانبه متقدمًا على الرغم من الحجاب المفروض عليها وعدم تحبيذ انكشافها على الغرباء، وما مرد ذلك إلا للنفوذ الواسع لاتباع الطريقة البكداشية، التي لم تكن تفصل بين مشاركة المرأة والذكر أثناء ممارستهما للطقوس الدينية، مع تسامحها الكامل مع غطاء رأس المرأة الذي كانت تصر بعض المذاهب الفقهية على إلزاميته للنساء. وهو الأمر الذي وجد انعكاسه في خروج بعض القوانين السلطانية عن تلك الأحكام الخاصة بالشريعة الإسلامية التي كانت تفرض على مرتكبي الزنا عقوبة الموت، واستبدالها بغرامة مالية تتدرج صعودًا مع المرتبة الاجتماعية لمرتكبي الفعل الجنسي خارج مؤسسة الزواج.
اقرأ/ي أيضًا: