ليس كتاب "المشي فلسفةً" (معنى، 2021/ ترجمة سعيد بوكرامي) للمفكر والفيلسوف الفرنسي فريديريك غرو (1965)، كتابًا فلسفيًا وإن احتوى على ما يحيل إلى ما هو فلسفي. الكتاب، باختصار، تأملات مطولة ومملة أحيانًا حول المشي، يقابلها أو يفصل بينها سردٌ لتجارب عدد من الأدباء والفلاسفة معه.
مشى نيتشه في البداية هربًا من صداعه، ثم وجد في المشي فرصة لمحاورة الذات وتأليف الأفكار التي شكلت أساس أكثر مؤلفاته أهمية
ينقسم كتاب فريديريك غرو إلى قسمين بطريقة لا تجعلهما، مع ذلك، منفصلان عن بعضهما بعضًا. فهما ليسا مستقلان كلٌ في قسم، بل ويشتركان أيضًا في تناول موضوع واحد وإن من وجهات نظر متباينة، ولكنهما يختلفان اختلافًا شديدًا في المستوى لدرجة أنه يمكن القول إن القسم الثاني الذي يتحدث فيه غرو عن العلاقة التي جمعت بعض الأدباء والفلاسفة بالمشي، هو متن الكتاب والجديد الذي يقدّمه. أما القسم الأول الذي تضمن تأملات المؤلف نفسه حول المشي، وباستثناء بعض الأفكار، لا يقدم جديدًا.
اقرأ/ي أيضًا: صعود لعبة "ووردل".. اللغة الإنجليزية تلعب مع صغارها
تأملات في معنى المشي وأثره
ينطلق فريديريك غرو في كتابه من نفي صفة "الرياضة" عن المشي، واعتباره نشاطًا ذاتيًا خالصًا لا تحتاج ممارسته أكثر من قدمين. هذه هي بالضبط الفكرة التي تسعى "العلامات التجارية" إلى تغييرها من خلال إغراق الأسواق بالأحذية والجوارب والملابس والإكسسوارات التي تجعل من المشي، وفق دعايتها الترويجية، أمرًا ممكنًا. بينما الأصل أن المشي هو ما يحرر الفرد من وهم الأشياء الضرورية.
تعريف المشي بوصفه نشاطًا شديد الذاتية لا يجعل منه فرصة للقاء الذات. المشي، في نظر الفيلسوف الفرنسي، ممارسة يُفلت الفرد خلالها من فكرة الهوية ومن الإغواء بأن يكون أحدهم. يقول: "أن تكون أحدهم، هذا يصلح للسهرات الجماعية، حيث يحكي كلٌ منا عن نفسه، كما يصلح لعيادات علم النفس" (ص 13).
لقاء الذات والانشغال بها خلال المشي ينفي عنه هذه الصفة. السرعة تفعل ذلك أيضًا، فالمشي لا بد أن يكون بطيئًا، والبطء في هذا السياق يحيل إلى تناسق الخطوات وانتظامها، ويضمن التصاق المشّاء بالوقت. هذه أمور لا يأخذها المشّاء السيئ بعين الاعتبار، فما يعنيه من المشي لا يتجاوز "النتائج"، مثل قطع مسافة ما في ساعتين بدلًا من ثلاث ساعات. غير أن هاتان الساعتان، كما يراهما غرو، تختضران يومًا كاملًا، بل وتدفعان بالزمن إلى حدود الانفجار. بينما البطء، على العكس تمامًا، يمنحنا إحساسًا كاملًا بالزمن. ولضمان خطوات بطيئة، لا بد من ممارسة المشي دون رفقة تجعل من خطوات المشّاء مضطربة ومتعثرة، وتشغله عن الطبيعة وتحجب مشاهدها عنه.
يضيف فريديريك غرو إلى ما سبق أن المشي، على عكس الحكمة القديمة والمدارس الفلسفية التي اهتمت بالفصل والتمييز بين مشاعر الفرح واللذة والسكينة والسعادة، يتيح المجال لتجربة جميع هذه الاحتمالات بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة في آنٍ معًا، وتحديدًا حين تكون الغاية من المشي هي التنزه.
يرى المفكر الفرنسي أن "التسكع"، الذي اشتهر فالتر بنيامين بدراسته، هو أيضًا أحد أشكال المشي وتجاربه. غير أنه، مع ذلك، تجربة شاذة إلى حدٍ ما. فالمتسكع يمشي ضمن المدينة التي تجعل من إيقاع سيره متعثرًا غير منتظم، على عكس مشّاء الأرياف والغابات. كما أنه: "مخلخل. إنه يخلخل الحشد والسلع والمدينة وكذلك قيمهم (...) إن فعل المشي عند المتسكع أكثر غموضًا، ومقاومته للحداثة متناقضة (...) إن المتسكع يخلخل الشعور بالوحدة والسرعة والمضاربة التجارية والاستهلاك" (ص 136).
معنى المشي عند الفلاسفة والأدباء
فريدريك نيتشه فيلسوف مشّاء تعامل مع المشي بوصفه علاجًا ثم أسلوبًا في العيش والتفكير. حدث ذلك، كما يخبرنا غرو في كتابه، بعد أزمات نفسية ومهنية وعاطفية مختلفة أصيب على إثرها بصداع نصفي ألزمه الفراش لفترات طويلة، ومنعه من ممارسة القراءة التي وجد في المشي بديلًا لها، وعلاجًا لصداعه النصفي المزمن.
اكتشف جان جاك روسو أثناء المشي ومن خلاله أن صفات مثل الشراسة والخبث والخبل لا تنطبق على إنسان العصور الأولى
مشى نيتشه في البداية هربًا من صداعه وعجزه عن القراءة، فإذا بالمشي يتحول، مع مرور الوقت، إلى فرصة لمحاورة الذات وتأليف الأفكار التي شكلت أساس عدد من مؤلفاته وأكثرها أهمية، لا سيما "المسافر وظله" الذي يقول إنه أنجزه خلال المشي وبفضله: "كل شيء في هذا الكتاب، ما عدا ربما بعض الأسطر، تم التفكير فيه وأنا أمشي، وتسجيله على عجل في ستة دفاتر صغيرة". (ص 21).
اقرأ/ي أيضًا: من أجل أدب يحمل وهج المواجهة
لم يكن المشي عند الفيلسوف الألماني استراحة بعد العمل، بل شرط العمل نفسه. فالجسد، من خلال حركته المستمرة أثناء المشي، هو ما أوحى له بأفكاره ومؤلفاته. هكذا يكون نيتشه، حسب فريديريك غرو، قد كتب لا بيديه فقط، بل بقدميه أيضًا.
الشاعر الفرنسي آرثر رامبو يحضر أيضًا في كتاب فريديريك غرو بوصفه مشّاءً فريدًا من نوعه: "أنا أمشي على قدمي، ولا شيء أكثر من ذلك"، يقول رامبو الذي مشى في البداية للوصول إلى المدن الكبرى، باريس وبروكسل، حيث يمكنه الحصول على الاعتراف وتحقيق طموحاته الأدبية. ثم مشى بعد ذلك متنقلًا بين مدنٍ عديدة، شارفيل ومارسيليا وجنوة وقبرص وأمستردام ولندن وعدن وهارار وغيرها، بحثًا عن حياة أفضل.
يحضر المشي في جميع مراحل حياة رامبو بل ويختزلها أيضًا، خاصةً حين نعلم أن بعض قصائده ولدت على الطرقات التي مشى فيها حتى تورمت إحدى ساقيه، واضطر الأطباء إلى قطعها. هذه لحظة فارقة في حياة الشاعر الفرنسي الذي ظل، رغم اشتداد مرضه الذي ألزمه الفراش، في انتظار ساق اصطناعية يواصل بها المشي بوصفه، حسب غرو، هروبًا متواصلًا من مكانٍ ما، وسعيًا مستمرًا للوصول إلى آخر.
نيتشه ورامبو مشاءان مألوفان لا نجد في دوافعهما أمرًا غريبًا، على عكس جان جاك روسو الذي مشى في أربعينياته بحثًا عن الإنسان الطبيعي الذي لم تشوهه الثقافة والعلم والفنون، ذلك الذي وجد قبل المجتمعات والعمل، أو الإنسان الذي خرج من الطبيعة البدائية. يقول: "طوال بقية اليوم، كنت أتوغل في الغابة، أبحث فيها، وقد وجدت هناك صورة الزمن الأول الذي كنت أرسم تاريخه بفخر" (ص 63).
اكتشف الفيلسوف السويسري، أثناء المشي ومن خلاله، أن صفات مثل الشراسة والخبث والخبل لا تنطبق على إنسان العصور الأولى، البدائية، الذي لا تستولي عليه أيضًا الدوافع المضطربة، وحتى الغرائز العنيفة. بل إنه يرى أن البدائية ليست مصدر الخبث والريبة والكراهية، وإنما "حديقة العالم الاصطناعية" وفكرة "المجتمع" الذي يفسد الإنسان حسب تعبيره. هذه هي الأفكار التي ولدت عنده أثناء المشي، الذي يرى أنه يحرر المشّاء من ضرورة حمل شعورٍ ما، خبيث أو أخوي، تجاه الآخر الذي يكون حضوره محايدًا خلال المشي.
هنري ديفيد ثورو يحضر أيضًا في كتاب فريديريك غرو، الذي يستخلص من تجربة الأخير في العيش منعزلًا في الغابات، واعتماده على الأساسيات فقط في تدبر شؤونه، بالإضافة إلى موقفه من الرأسمالية التي واكب صعودها خلال القرن التاسع عشر؛ أن المشي ليس: "مسألة حقيقية فقط، وإنما هو مسألة واقع كذلك. المشي هو القيام بتجربة الواقع. ليس الواقع من حيث هو مظهر خارجي مادي خالص، وليس من حيث هو ما يهم الذات، ولكنه واقع ما يصمد: إنه مبدأ الصلابة، والمقاومة" (ص 78).
المشي في نظر فريديريك غرو هو ممارسة يُفلت الفرد خلالها من فكرة الهوية ومن الاغواء بأن يكون أحدهم
إلى جانب هؤلاء، هناك أيضًا الكاتب والشاعر الفرنسي جيرار دي نيرفال، الذي يقول غرو إن المشي كان عنده نتيجة لشعوره بالكآبة، هروب من الواقع أحيانًا، وعودة إلى الطفولة وذكرياتها وأحلامها في أحيانٍ أخرى. وفي كلتا الحالتين، يبدو المشي محاولة لتجاوز كآبته، غير أن الأخيرة كانت أقوى لدرجة أنها جعلت من المشي: "سعيًا وراء المصير والإلحاح على بلوغ النهاية (...) إلحاح مهووس بأن يؤكد ما هو متوقع" (ص 119)، أي تأكيد مصيره، حيث قضى الشاعر الفرنسي منتحرًا عبر شنق نفسه في 26 كانون الثاني/ يناير 1855.
اقرأ/ي أيضًا: عن ثقافة في نفق
إيمانويل كانط مشّاء أيضًا، ولكن المشي عنده لا يتعدى "التنزه". مع ذلك، يستخلص غرو من تجربته أن المشي قد يكون رتيبًا، ولكن رتابته هذه هي علاج للملل، ولسكون الجسد عند فراغ التفكير: "تكرار المشي يقتل الملل لأنه لم يعد بإمكانه أن يتغذى على إرهاق الجسم فيستمد من خموله الدوار الغامض لدوامة لا نهائية" (ص 123).
اقرأ/ي أيضًا: