جاء في "أخلاق الوزيرين" لأبي حيان التوحيدي ما يلي: "خرج ابن عبّاد من عندنا، يعني الرَّي، متوجهًا إلى أصفهان ومنزله ورامين، فجاوزها إلى قرية غامرة على ماء ملح، لا لشيء إلا ليكتب إلينا: كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار".
الشغف بالفاصلة هو ما جمع فلوبير ابن القرن التاسع عشر بابن عبّاد الذي عاش وتوفي في القرن العاشر
استهل الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو كتابه "بحبر خفي" (دار توبقال للنشر، 2018)، بهذه الحكاية التي رواها التوحيدي في معرض سخريته من الصاحب بن عبّاد الذي غيّر وجهته قاصدًا بلادًا لا يعنيه منها سوى مناسبة كلمة النوبهار لكلمة النهار.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو في "الأدب والغرابة".. سندباد أدبي
والتوحيدي في روايته للحكاية، لا يسخر من ابن عبّاد بقدر ما يسخر من الهدف الذي حمَله على تغيير وجهته، وهو مناسبة السجع واستقامته، فالأخير لم يغيّر مقصده إلا سعيًا خلف هذه الاستقامة التي ما كانت لتكتمل دون كلمة النوبهار، وهي الكلمة التي لم يكن ممكنًا لابن عبّاد الإحاطة بها دون حرف المسار وتغيير الوجهة.
اكتسى فعل ابن عبّاد صبغة المغامرة، هذا ما رآه البعض في الحكاية، وإلا كيف يُقرأ تغيير المقصد وتكبد المشقات والأهوال في بلادٍ وصفت بالكريهة؟ ولكن، في المقابل، تعيد الغاية مما سبق ذكره الحكاية إلى السياق الذي وردت فيه عند التوحيدي: السخرية والازدراء والتهكم. ثلاث صفات تُحيل الحكاية إليها، ولكنها، في كتاب كيليطو، تحيل إلى شيء آخر مختلف، هو فعل الكتابة الأدبية، أو صنف معين من أصنافها، يُعبّر عنه صاحب "الأدب والارتياب" بقوله: "من المؤلفين من يرى أن شرفه رهين بجزئيات وتفاصيل إنشائية، بل بفاصلة!" (ص 9).
والصاحب بن عبّاد في هذا السياق لا يبدو وحده المعني بحديث كيليطو، هناك أيضًا، على سبيل المثال، الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير الذي رأى أن: "أجمل امرأة في العالم لا تساوي فاصلة موضوعة في محلها".
هذا الشغف بالفاصلة لدرجة تفضيلها على أجمل امرأة في العالم، ومنحها مكانة مهمة ومرتبة متقدمة لكونها جزءًا من فعل الكتابة الأدبية، بالإضافة إلى شغفٍ مشابه بمناسبة السجع واستقامته، وإن تطلب تحقيقه قطع مسافاتٍ طويلة جريًا وراء لفظة غريبة؛ هو ما جمع فلوبير ابن القرن التاسع عشر بابن عبّاد الذي عاش وتوفي في القرن العاشر، وهو ما سيجمعهما أيضًا بالفيلسوف الروماني إميل سيوران الذي منح الفاصلة بُعدًا آخر حينما قال: "إنني أحلم بعالم قد نقبل فيه الموت من أجل فاصلة".
إميل سيوران: "إنني أحلم بعالم قد نقبل فيه الموت من أجل فاصلة"
الملفت أن سيوران، صاحب "تاريخ ويوتوبيا"، كان قد وضع، بقصدٍ أو دونه، ما يمكن اعتباره تفسيرًا لهذا الشغف وربما الهوس بجمال اللفظ حينما قال إنه: "لا أسلوب مع غياب الشك وسيادة اليقين: إن الحرص على جمال اللفظ وقف على الذين ليس بمقدورهم أن يركنوا إلى اعتقاد راسخ. ففي غياب سند متين لا يبقى لهم إلا التشبث بالكلمات، أشباه واقع؛ أما الآخرون، الواثقون بقناعاتهم، فإنهم يستخفون بمظهر الكلمات وينعمون براحة الارتجال".
اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو.. جاحظ يكمل الغناء
وهنا يطرح عبد الفتاح كيليطو السؤال التالي: هل يعن لأديب أن يستنكر قولة فلوبير عن الفاصلة؟ هل يجرؤ حتى أن يدعي أن فيها مبالغة؟ ويضيف مجيبًا: "يبدو لي أنه إن فعل، سيحكم على نفسه بالخروج توًا من دائرة الأدب (...) فهل هناك أدب لا يخضع لإكراهات طوعية وقسرية في آن؟ ألا يشكل لزوم ما لا يلزم، حسب تعبير ضرير المعرة، تعريفًا للأدب؟ وإلا، فأي تعريف سيتبقى لنا يا ترى؟" (ص 11).
يواصل صاحب "المقامات" في كتابه التجوال بين عوالم مختلفة بصفته وسيطًا بينها. هذه المرة، يمضي بنا من الفاصلة إلى الكتابة بلغة مستعارة، ويجمع إميل سيوران بالسندباد في سياق الحديث عن اللغة واللغة الأخرى. فالأخير خلال سفرته الأولى ألقته الأمواج في ساحل جزيرة نائية بعد أن كاد يغرق، واكتشف هناك أنه فقد القدرة على المشي، فصنع لنفسه عكازًا يتوكأ عليه، ولكن العكاز نفسه يختفي عند عودته إلى بغداد، حيث يستعيد قدرته على المشي مجددًا.
أما سيوران، فإن ما يجمعه بالسندباد بحسب كيليطو هو العكاز نفسه. الفيلسوف الروماني الذي انتقل من الكتابة بلغته الأم إلى الكتابة باللغة الفرنسية بعد استقراره في باريس، كتب: "استبدال اللغة، بالنسبة للكاتب، هو بمثابة كتابة رسالة غرام باستعمال قاموس".
وفي هذه المقولة، كما يبين لنا كيليطو، إشارة إلى عكاز من نوعٍ آخر، فما كتبه مؤلف "مثالب الولادة" يحيل إلى لغتين: واحدة أليفة، أسروية، ميزتها التلقائية والخفة واليسر؛ وأخرى غريبة، تالية، لا مباشرة مبنية على إعمال الفكر وما يترتب عنه من تكلف. واحدة لا تقتضي الاستعانة بقاموس، لأنه داخلي، متضمن في فعل التنفس؛ وأخرى لا بد من الاستعانة فيها بأداة خارجية منفصلة عن الذات. تجدني في الأولى أمشي برشاقة واستقامة على رجلي الاثنين، وفي الثانية أتعثر، أتذبذب، أكون مرغمًا على اعتماد عكاز.
اللغة الأليفة يجوز فيها الخطأ، بل إنه يكون في بعض الأحيان فضيلة ومزية، على العكس تمامًا من اللغة المستعارة التي يعتبر فيها الخطأ عيبًا مشينًا
السندباد استعان بالعكاز في بلاد غريبة، وما إن عاد إلى بلاده حتى تخلى عنه. تمامًا كما هو الحال عند إميل سيوران الذي استعان بعكاز مشابه بعد انتقاله من بلادٍ إلى أخرى، ومن لغةٍ أليفة إلى أخرى غريبة. ثنائية الألفة والغرابة تعبّر إذًا عن تجربة استبدال اللغة بالنسبة إلى الكاتب، فالأولى تتيح المشي برشاقةٍ واستقامة، على عكس الثانية التي يكون عندها لزامًا على الكاتب الاستعانة بأداة خارجية منفصلة: الاعتماد على عكاز.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو: النقطة الفاصلة
اللغة الأليفة يجوز فيها الخطأ، بل إنه يكون في بعض الأحيان، وفقًا لكيليطو، فضيلة ومزية، على العكس تمامًا من اللغة المستعارة التي يعتبر فيها الخطأ عيبًا مشينًا، وهو ما عبّر عنه سيوران بقوله إن: "العيب في استخدام لغة مستعارة هو أننا لا يكون لنا الحق في أن نرتكب فيها أخطاء أكثر من اللازم. والحال أننا لا نعطي للكتابة مظهر حيوية إلا بسعينا نحو الخطأ مع تجنب الإفراط فيه، وميلنا كل لحظة إلى اللحن اللغوي".
الرحلة عند عبد الفتاح كيليطو قائمة بين النصوص الأدبية، وما يجنيه من أسفاره هذه جملة أفكار جوالة تربط، كما هو الحال في كتابه هذا، بين عوالم مختلفة، فيبدأ بالتوحيدي وينتقل إلى الصاحب بن عبّاد مرورًا بفلوبير وسيوران، قبل أن يعود إلى السندباد ومنه إلى ابن العميد الذي اقتفى أثر الجاحظ ونسج على منواله، فبات الجاحظ الثاني والأخير.
ولكن أبي حيان التوحيدي يخالف هذا الرأي بقوله: "فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول: سمعت ابن ثوابة يقول: أول من أفسد الكلام أبو الفضل، ابن العميد، لأنه تخيل مذهب الجاحظ وظن أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيدًا من الجاحظ، قريبًا من نفسه".
خطأ ابن العميد، بحسب عبد الفتاح كيليطو، أنه حاول الابتعاد عن نفسه والتمثل بالجاحظ، وما حدث أنه فشل في ذلك، فوقع بعيدًا منه قريبًا من نفسه. ويشير المؤلف هنا إلى التشديد على جزئية أن ابن العميد لم يكن هو نفسه، وإنما قريبًا من نفسه، الأمر الذي دفعه لطرح السؤال التالي: ألا يلزم أن يكون المؤلف قريبًا من نفسه؟ أليس بهذه الصفة يتميز ويغدو فريدًا لا يعوض؟ وهل فشل ابن العميد لأنه قلد الجاحظ بالذات؟ هل أنا أخطأ لأنه قلد بالضبط هذا المؤلف؟
يرى عبد الفتاح كيليطو أن الابتكار يبزغ، ويا للعجب، بالتقليد المطلق والتطابق الكامل!
اقرأ/ي أيضًا: عبد السلام بنعبد العالي في "لا أملك إلَّا المسافات".. توليد الفكر واللغة
الجواب بالنسبة إليه هو أن خطأ ابن العميد يكمن في التقليد ذاته، فهو لم يكن مقلدًا بما فيه الكفاية، فلم ينفصل عن نفسه بالقدر الكافي. فبقدر ما يكون التماهي مع الجاحظ تامًا، بقدر ما تتحقق الفرادة والجدة. بمعنىً آخر: يبزغ الابتكار، ويا للعجب، بالتقليد المطلق والتطابق الكامل.
اقرأ/ي أيضًا: