ترك العثمانيون إدارة المناطق العربية لـ"حكم سائب" على مدى طويل، وفق تعبير علي الوردي، وإن كانت هذه العبارة تحتاج للمزيد من التدقيق إلا أنّها تشي بنوع من تثوير البحث عن صحتها، أسدل ذاك "الحكم" نوعًا من الفوضوية اتّضحت مع جلاء الإدارة العثمانية عن المنطقة في مطلع القرن العشرين، أو بوصف كوثراني وجود "رأس نظام منتفخ يقابله عدم الانسجام مع الجسم الاجتماعي في الدولة"، لتحل فيه فيما بعد أنظمة كولونيالية لم يكن هدفها إلا إمرار مشاريعها الاقتصادية من فوق سكّانها، وكذا محاولة توسيع الاتفاقيات التي استطاعوا الحصول عليها/انتشالها من السلطة العثمانية.
تنوّعت مؤلفات وجيه كوثراني بين البحث في تاريخ الأفكار، والتدوين في مناهج كتابة التاريخ، والتنقيب الوثائقي
تنوّعت مؤلفات المؤرّخ اللبناني القدير وجيه كوثراني على عدّة ضروب هي بالأساس؛ البحث في تاريخ الأفكار، والتدوين في مناهج كتابة التاريخ (لا تتضح فقط في "تاريخ التأريخ")، والتنقيب الوثائقي. وكتابنا هذا هو من النمط الأخير، وهي من أهم الدراسات العربية التي تبيّن أحد أوجه الحملات الصليبية المستجدة التي لم تبتدئ فقط منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى ولكن تعود إلى تنازع القوى الأوروبية على المنطقة منذ وسم القيصر الروسي نيكولاي الأول الدولةَ العثمانية برجل أوروبا المريض منتصف القرن التاسع عشر.
اقرأ/ي أيضًا: حزب الله ومسألة الدولة المدنية وولاية الفقيه والطائفية السياسية
قبيل انفجار الحرب تكشّف هذا الصراع الأوروبي على أشدّه أي قبل تكوّن أقطاب (الحلفاء - المحور) حيث كانت المشاريع الأوروبية تغزو المنطقة نتاج تحوّل نظام الملل إلى امتيازات عثمانية لأوروبا أنتج حماية كافة التديّنات المسيحية، ومما زاد من حدّة ذلك التنافس ورفع شَرَه القوى الأوروبية فشل خلفاء نيكولاي الأول في التهام الحصّة الروسية من "الشرق الأوسط" لتحقيق مقولته عن مرض العثمانيين، بحيث اندلعت الثورة البلشفية في روسيا، وبقيت تركة الإمبراطورية العثمانية أو بتعبير كوثراني: "الدولة السلطانية [الأخيرة] المستقوية بالدين، لا الدولة الإسلامية" كمصطلح خلدونيّ، بقيت هذه التركة للإنجليز والفرنسيس يقابلهم حلفاء الأتراك، الألمان.
تركّز هذه الدراسة الاستقصائية لمجموعة من الوثائق المهمّة على فحص دور فرنسا بالتحديد في هذا المعمعان في إحدى أهم بقع التوتّر العثمانية، سوريا، ليست تلك "السياسية" كونها لم تتشكل آنذاك، ولكنها "سوريا الطبيعية" المتمثلة ببلاد الشام التي تقاسمها الاستعمار، والتي شكّلت فيما بعد سوريا السياسية المختلفة الطبائع، وكذا محيطها لبنان وفلسطين والأردن.
ينقسم كتاب وجيه كوثراني "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013) إلى جزئين، الأول الذي يشكّل ثلاثة أرباع الكتاب وهو تحليل الوثائق تحت الدراسة، والثاني هي ترجمة الوثائق الفرنسية أو تلك المتعلقة بالسياسة الفرنسية من مصادر مختلفة (26 وثيقة وتسع خرائط)، تشكّل هذه الوثائق خزعات أخذت من ذهن الاستراتيجية الفرنسية حيال المنطقة، كما وشملت الدراسة مجموعة من الإحصائيات المجدولة المختلفة.
يؤكدّ وجيه كوثراني على أن هذه الإحصائيات قد لا تكون دقيقة بحيث تبنى عليها دراسة إحصائية ذات نمط واضح، ومع ذلك فإنّ وسمها بالدراسة الوثائقية هو الأقرب من كونها "إحصائية" مع العلم بأن التنوع في (شكل) النسب هو حقيقي يقابله الشك في (مضمون) هذه النسب، ومن هنا جاء القبول النسبي بمحتويات الوثائق العام.
في كتاب وجيه كوثراني "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين"، نشهد لمحة من لمحات تشكل سوريا الحديثة ومحيطها
شكّل الجزء التحليليّ من الكتاب ثلاثة أقسام، الأول عن المعلومات الأساسية حول سوريا الطبيعية وهي المعلومات المتعلقة بمصادر استثمار فرنسا للموارد السورية آنذاك من البنية الطبيعية للزراعة وموارد الأرض، وليس انتهاءً بالبنية السكّانية وعقبات الطوائف وشكل التوزيع السكّاني ومعضلاته، والقسم الثاني متعلق باستراتيجية الاقتصاد الفرنسية على وجه الخصوص، والقسم الثالث حول الرؤية الفرنسية في تسهيل التحديات والمطبّات التي واجهتها من أجل بناء مشروعها الاستعماري الأكمل، بالخصوص العامل البشري الذي واجهها في سوريا الطبيعية (بلاد الشام)، الطوائف والقبليات، وكذا النزاع بين الحكومة الفرنسية وسيادات ليون ومارسيليا الاقتصادية على الموارد الشاميّة، وتقييم فرنسا لمنافسيها الإنجليز والألمان بالدرجة الأولى، مضافًا لهذا القسم الأخير تجديد الطبعة التي صدر فيها الكتاب منذ ثلاثين عامًا (1980) من طبعته الحالية (2013) بوضع مبحث يبيّن علاقة فرنسا بالمشروع الصهيوني في فلسطين.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "مختارات سياسية من مجلّة المنار لرشيد رضا".. أفكار مبكرة في الإصلاح
بُنيت وثائق الكتاب على العديد من توصيات طائفة من أصحاب المشورة من مختلف التوجهات فكان منهم الأكاديميين والباحثين في مجال الشرق الأوسط والمستعمرات مثل ووليرس، هوفلان، لاترون، ومنهم الدبلوماسيين كالقنصل الفرنسي في بيروت كولوندر ورئيس المفوضية الفرنسية دوكاي، وعلى رأسهم أصحاب الحل والربط الجنرالات أمثال نيجر، هاملين، وغورو وكانت محادثات هذا الأخير مع الرئيس الفرنسي ميليران ذات منحى مهم في كشف الجدل الاستعماري العام الصادر عن الجمهورية من طرف، والواقعي المناطقي المحليّ للجيش الفرنسي من آخر.
افتتاحية توغّل فرنسا في بلاد الشام
ورث العثمانيون "بلاد الشام" كمسمّىً ولد منذ العصور الإسلامية القديمة، وفي هذا الكتاب نشهد لمحة من لمحات تشكل سوريا الحديثة ومحيطها، كوليدة من هذا المسمّى العتيق لهذه "الجغرافيا التاريخية" Historical geography التي شكّلت الحدود التركية (بلاد الروم) مع المناطق العربية للدولة العثمانية، ومركز الوصل البرّي بين الشمال والجنوب العثمانيان.
وخلال ذلك تُفهم مشكلة الجغرافيا التي واجهت الفرنسيين بأنهم طالبوا أن تكون "سوريا التي يحلمون" ضمن ما يقارب "مملكة أشوريا القديمة" أي على أقسام ثلاثة؛ الجزء التركي الذي يبدأ من أطراف جبال طوروس وأضنة و[قهرمان] مرعش و [شانلي] أورفا وهطاي (الأسكندرون)، والجزء العراقي الموصل وضواحيه، ثم الجزء الأخير قلب سوريا ومحيطها كامتداد للسواحل التي نشطت فيها تجارة فرنسا في لبنان وبالتأكيد فلسطين. وهنا يطرح لنا كوثراني نوعًا من المثالية في المشروع الفرنسي والاستعلائية التي تريد الهيمنة حتى على التاريخ.
معادلة اجتماعية اقتصادية معقّدة أمام الفرنسيين
كذلك ما يتعلق بمشكلة الديموغرافيا المتمثلة بشكلين؛ الأول علاقة المدن بالمحيط (القرى والنواحي والقصبات)، والثانية العصبيات الطائفية والقبلية، ومن ذلك الخرائط المعقدّة للقبليّة الدرزية كونها تشكّل تجمّعًا قبليًا أكثر منه طائفي، والطائفية العلوية كون القبائل العلوية تشكل تجمعًا طائفيًا أكثر منه قبلي، كعامل معتمد على الوجود في الموضع الواحد، وعلاقة هذا التقسيم الإداري والتوزيع السكّاني بمسألة توزيع الأرض ومصادر التموين والنزاع الداخلي عليها الذي شكّل مصاعب في وجه السيطرة الفرنسية.
حاولت السلطة الفرنسية حلّ لغز المجتمع السوري بمجموعة من الاستقصاءات الاستخبارية والتوفيق بينها وبين رؤى غرفة تجارة ليون ومارسيليا
كما لا يجب أن ننسى علاقة الريف الأخطر مع التجّار الكبار والإقطاعيين التجاريين ورثة النظام العثماني، الذين شكّل وجودهم العامل المهم في المرحلة الانتقالية بين الإدارة العثمانية وتلك الانتدابية، حيث شكّلوا لوبيات اقتصادية محليّة وصفها كوثراني بالزبائنية التي تستقطب القوى الشرطية حولها وتشكّل ما يمكن تسميته بالخريطة الطائفية - الاقتصادية، نوعٌ ما من الطبقية "ليس الطبقية بالمعنى الماركسي" كما يضيف كوثراني ولكن كخاصية في المجتمع السوري، والتي حاولت السلطة الفرنسية حلّ لغزها بمجموعة من الاستقصاءات الاستخبارية والتوفيق بينها وبين رؤى غرفة تجارة ليون ومارسيليا.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة لبنان.. والطريق نحو التأسيس لتاريخ "لبناني" نظيف
كان مشروع فرنسا أمام هذه المعادلة هو الوقوف بين منافسات المدن البينية والحيلولة بين تضارب اتجاهات الزعماء ومثقفيها ومواقفهم من القضايا المصيرية بدءًا من انفصالهم عن السيادة العثمانية وحتى القلق من مشروع الإنكليز بإنشاء دولة كُلّيانية عربية (خلافة بصيغة ما كأحد المشاريع)، كما والوقوف مع القاعدة الفلاحية والقبلية وضبط كل تلك الجزئيات ضد البيروقراطية العثمانية بطرفيها الاقتصادي والإداري، وأيضًا "تجسيم خصوصيات الطوائف المذهبية"؛ خوفًا من "تعميم المعارضة" الذي يهدد الحلول الفرنسي بدل الوجود العثماني، هنا نشهد فرق النظرة الفرنسية المعاكسة للإنجليزية.
يمكن التمثيل على ذلك بإفشال الفرنسيين إقامة دولة الملك فيصل في سوريا ذلك لأنهم رؤوا، كما تشير الوثائق أنّه "بقايا لمشروعٍ إنكليزيّ"، ولم يريدوا إمرار مشروعه في سوريا التي يطمحون، ومثل ذلك مناوشاتهم الواضحة في مناطق النزاع بينهم وبين النفوذ الإنجليزي التي يتملّكها الحكم الشريفيّ للملك عبد الله في الأردن، وبالأخص التنازع في مناطق الدروز الناشب بين أي زعيم يؤيّد للإنجليز وأولئك المناهضين لهم.
المشروع الفرنسي الاقتصادي
تستعرض الوثائق مشكلة أخرى واجهت الفرنسيين، وهي مجموعة من رؤى المشاريع "الإصلاحية" التي تسهّل سيطرة الفرنسيين على البلاد منها التنمية الزراعية (التوت والحرير مثلًا) وأشكال التجارة المختلفة ووضع خطّة شاملة لتحويل البلاد لنمط صناعي حديث من خلال أنشطة متعددة مثل إنشاء "معرض بيروت" وكذا الحيلولة بين كافّة أشكال التنافس الاقتصادي، مع الإنجليز بالدرجة الأساسية، ومعضلة توصيات "ليون ومارسيليا" ومدى توافقهما مع المشروع العسكري والسياسي الفرنسي العام.
وفوق كل هذا تحدّي استكمال المشروع العثماني بمد طرق المواصلات بين المدن وعلى رأسها الشبكة الفرعية لسكة الحديد العثمانية حيث لم تستطع الدولة العثمانية مدّها، هذا المشروع الأخير جعلته الإدارة الفرنسية في مقدّمة أهدافها دونما التركيز على تطوير مهمٍّ للزراعة وفق توصيات الأكاديمي هوفلان حيث أشار إلى طبيعة سوريا الجغرافية التي تستلزم مثل هذه الشبكة كنوع من تثبيت الهيمنة وكذلك وصل الداخل السوري بالمرافئ الطرفية (الإسكندرون ويافا وبيروت)، حيث يمكن القول هنا عن أن الطبيعة السورية هي من أجبرت فرنسا على مثل هذا التوجّه.
كان مشروع الاستعمار الإنجليزي يركز على الأغلبية في المنطقة أو استكمال المشروع العثماني الجامع، "الخلافة" ولكن بإطارها العربي، كمشروع متوافق مع الرؤية الكولونيالية العالمية للإنجليز
ما دعا فرنسا لتقوم بمثل هذا النشاط هو رؤيتها للإنجليز يحوّطون المنطقة كفكّ كمّاشة (بين مصر والعراق)، وهذا الأمر ليس حديثًا بين هاتين القوّتين، فإننا نشهد مثله منذ مبتدأ القرن التاسع عشر حيث تشكّلت التحالفات النابليونية وقوى أوروبا ونشوء محمد علي في مصر، يعني إن هذا التنافس هو استدامة لما قبله، نفهم هذا الموضوع في مطلع القرن العشرين على سبيل المثال عند النظر في جداول أعوام 1910/1911 التي تشير من ناحية أولى إلى تقدّم الإنجليز والفرنسيين بوضوح على الألمان في الصادرات والواردات مع سوريا، مما يجعلها القوّتان الأكثر تقدمًا في سوريا، وعلى ناحية أخرى تقدّم الإنجليز على الفرنسيين في التصدير إلى سوريا مما حدا الفرنسيين لتركيز سيطرتهم التجارية أكثر في سوريا، وشكّل لهم دافعًا تنافسيًا واضحًا في "معرض بيروت" الذي كان بطبيعة دولية أرادت منه فرنسا حيازة الدرجة الأولى تجاريًا.
نَفَسُ بريطانيا الكُلّياني للمنطقة وفرنسا التبعيضي
يشير كوثراني للفرق بين عقيدتي المشروع الإنجليزي والفرنسي في هذه المنطقة، فالإنجليزي كان يركز على الأغلبية في المنطقة أو استكمال المشروع العثماني الجامع، "الخلافة" ولكن بإطارها العربي، كمشروع متوافق مع الرؤية الكولونيالية العالمية للإنجليز حيث إن الوجود الإسلامي في "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" ذو أهمية بالنسبة لهم، بعكس ما لدى الفرنسيين حيث الواقع بتكريس الوجود الطائفي السوري، أو إدارته دونما النظر إلى المسلمين "الذين قد يكون لغالبهم انتماء إنكليزي غير متوافق مع الرؤية الفرنسية" وفق ما يرد في إحدى هذه الوثائق.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب التاريخ اللبناني.. بيت بطوائف كثيرة
كانت السلطة الفرنسية تركّز على الشق السوري ذي البنية المسيحية المثقفة والمنفتحة على التجارة مع أوروبا قبالة المسلمة التي قد لا تقدّم لها هذا الولاء، حتى إنّها كانت هكذا تقدّم صورة المسيحي في تقاريرها "العينية" في الغالب لا البحثية، صحيح أن ثمّ عائلات مسلمة غنيّة وقويّة منشغلة في التجارة، ولكن الفرنسيين كانوا يريدون مواجهة أي قوى من شأنها أن تظهر انتماءً للإنجليز أو لها ارتباط ما بمصر التي تقع تحت نفوذهم.
كان المشروع السياسي الفرنسي يتخبّط في بناء سوريا التي يريد من خلال إنشاء "الدول البديلة" والتشكلات الطائفية والإدارية فيها، فتارة يكون بإنشاء إدارة بناء على التجمع الاقتصادي وأخرى على القبلي أو/والطائفي، لننظر مثلًا إلى دولة حلب ولبنان الكبير وكذا مناطق العلويين والدروز، كشكل من تثبيت هذه الفروقات في "الاجتماع" [لا المجتمع] السوري.
كذلك يمكن أن ننتبه إلى وجود دور المسلمين السنة في السيطرة على المرافئ والسهول وحركات التجارة الأساسية في البلاد لطبيعة أنّهم منسجمين مع سنّية النظام العثماني البائد بعكس بقية "اقتصادات الطوائف المنغلقة"، هنا وقفت فرنسا أمام تحدّ الترجيح المعقّد بين الإقطاعيات السنيّة (كمشروع إنجليزي يرث الكليانة العثمانية القديمة) واقتصاديات الطوائف المتشتتة.
ومع ذلك فإن الفرنسيين لم تكن لهم هذه الرؤية بشكل منفرد ومحض، بل كانوا كذلك يريدون التوافق مع الوجود الإسلامي في سوريا، حيث إنّهم لم يهملوا كونهم قوة إسلامية أخرى منافسة للقوة الإنجليزية، نتاج سيطرتهم في بلاد أخرى إسلامية لها وجود مهم في الشمال الأفريقي، وبالتحديد وجود نوع من الهجرات المغاربية لسوريا، من ضمنها شخصيات كان لها الأثر المهم في المشاريع البريطانية، حيث طمح الفرنسيون التأثير عليهم، كعائلة الجزائري على سبيل المثال.
واجهت السلطة الفرنسية مشكلة قديمة لطالما قوّضت نظام الدولة السلطانية الشرقية؛ هي في تركيز قوّتها بالمدن واستقطاب القرى والريف لهذه المدن ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا
كما واجهت السلطة الفرنسية مشكلة قديمة لطالما قوّضت نظام الدولة السلطانية الشرقية؛ هي في تركيز قوّتها بالمدن واستقطاب القرى والريف لهذه المدن ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، والذي زاد من هذا الامتحان هو أنّها ليست سلطة مسلمة من طبيعة الشعب، بل هي "خارجية"، كما أنّها ليست مثل الإنجليز الذين لم يجدوا طائفة مسيحية ما ليدعموها فاتجهوا للتقارب مع المسلمين، حيث كان الفرنسيين يقدّمون أنفسهم كداعمين للكاثوليك، فكيف سيكون لهم هيمنة على "سوريا السنيّة" يا ترى! لذلك وجدت تشكيكًا حتى من المثقفين أمثال محمد كرد علي، الذي كان مناهضًا للإدارة العثمانية من جهة، وتعرّض للمضايقة من الفرنسيين من أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب عزمي بشارة عن الطائفية.. تأصيل فريد في مختبر تاريخي حيّ
ومع وجود هذه النظرة التنازعية بين الحديث عن الجوامعية الإسلامية أو تكريس واقع الطائفية لدى الفرنسيين، وما للعلاقة الواضحة الأقرب بين الإنجليز والمسلمين منها للفرنسيين، مما حدا الفرنسيين بالتأمين لنظرتهم الكلاسيكية الكاثوليكية التي تركزت منذ مؤتمر "معاهدة" باريس 1856، أي لم تستطع لهذا الداعي تحديث نظرتها مذّاك الوقت، وهو ما أسماه كوثراني بغلبة عناصر "الضبط السياسي على عناصر الوحدة الاقتصادية ومحاولة جذب الأعيان والزعامات المختلفة" لها بطرق شتّى.
طبعًا برأيي هنا الحديث يقع على الأعيان الاجتماعية لا الأعيان السياسية، فالأعيان السياسية قد تكوّنت في القرن الثامن عشر وسببّت القلق للنظام العثماني، وكان لها نصيب من الاهتمام من قبل السلطة العثمانية، كما وحازت على اعتراف السلطة بوجودها وعلى وجه الخصوص من السلطان محمود الثاني، حيث قدّم لهم نوعًا من الرعاية والمسايسة، بينما كانت الأعيان الاجتماعية التي لا تمتلك سلطة عسكرية واسعة قد انتفخت فيما بعد وسببت القلق للنفوذ الانتدابي بشكل أكبر.
فرنسا والمشروع الصهيوني
وفيما يخصّ المشروع الصهيوني وفلسطين، فإن هذا الأمر مرّ في عدة مراحل كان كل منها يؤسس للذي يليه، حيث ابتدئ بتردد فرنسيّ في دعم المشروع الصهيوني برفضه لكونه يقف في وجه المشروع الكاثوليكي الذي يضمّ سيطرة الفرنسيين على فلسطين ضمن الأراضي السورية، وسبقه الحديث عن وجود اليهود الفرنسيين في فلسطين كمجرد مواطنين لا يجب إخراجهم من "الأراضي الفلسطينية" تأكيدًا على "نظام الحماية" الذي توكّلته الجمهورية الفرنسية واعتبار مواطنيها اليهود كالوجود الكاثوليكي في الأراضي العثمانية مما يعطيها المزيد من النفوذ.
وأخيرًا بالقبول بهذا المشروع بشكل كليّ كأمر واقع ومبادلة عقارية للأراضي العربية مع إنجلترا تمامًا كما حصل في ترك طموح فرنسا بالموصل، وهنا لا يمكن إغفال رأس مال اليهودي المغري للفرنسيين في الواقع السوري الاقتصادي الحرج الذي يدفعهم لقبول هكذا مشروع على رأس السكان العرب في المنطقة.
خاتمة المنهج
ومع ذلك هل كان بالفعل ثمّة حسٌّ طائفي و"لا قوماني جامع" منع من وجود تكاتف عربي ما للحيلولة بين مشاريع "الاستعمار"؟! هنا يؤكد كوثراني على وجود حس ما مشترك كعدم التفريق بين المواطن الفلسطيني والسوري ومعارضتهم للفصل بين المناطق السورية السياسية وتلك الفلسطينية، كذا ووقوف الدروز في وجه تقطيع منطقة حوران بين الأردن وسوريا، ولكنّه يرجع ويبيّن أن مثل هذه المشاعر كانت تحكمها إمّا التجمعات الاقتصادية أو القبلية العشائرية ومصالحها، لا مجرد وجود حس قومي عربي عام.
رمى العرب مشكلة الانقسام على اتفاقية سايكس - بيكو مقابل احتوائهم على حسّ قوميّ رومانسي، وغياب مضمون لمفاهيم كالوطن والوطنية والأمة
اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يبحث تاريخ نكبة فلسطين في عامها الـ70
مع كل هذه الأطروحات التحليلية المهمّة عالية النقد والتنقيب التي يقدّمها وجيه كوثراني، والتي تمسّ واقعنا السوري والفلسطيني، والعربي قبل ذلك، بدرجة كبيرة لا مبالغة فيها، يبقى التساؤل ليس عن مؤامرة ما تمسّنا بقدر وجود استعداد لدى الداخل العربي والذوات المجتمعية في مطلع القرن العشرين لمشاريع الانقسام، وكما يسمّيها كوثراني في مدوّناته "البكائيات العربية"، وبالأخص في وصفه رمي العرب مشكل الانقسام على اتفاقية سايكس - بيكو مقابل احتوائهم على حسّ قوميّ رومانسي، وغياب مضمون لمفاهيم كالوطن والوطنية والأمة.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "صفد في عهد الانتداب" لمصطفى العباسي.. المؤرّخ يُحرّر المدينة
كتاب "كيف تستجيب الجيوش للثورات؟".. في الأدوار الممكنة للمؤسسة العسكرية