على مدار العامين الماضيين، أو – وبدقّة أكثر – منذ وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتّحدة، بدأت مُحاولات التطبيع مع الكيان الصهيونيّ ومُهاجمة الفلسطينيين والقضية الفلسطينية وتزييف حقائقها ووقائعها، تأخذ شكلًا جديدًا علنيًا تتولّى ترويجه ماكينات وأدوات إعلامية رخيصة وتحريضية تُدارُ برؤية تطبيعية ونفس تشبيحيّ بحت، يجعل من الجلّاد ضحية ويدعوا إلى التسامح معه، في الوقت الذي تروِّج فيه صورة مختلفة للفلسطينيين تُحمّلهم مسؤولية ما حدث منذ النكبة حتّى يومنا هذا.
الخطاب الذي حمله الكتاب الصهيوني "النكبة الهراء" هو الخطّاب الذي تتبنّاه شاشة MBC وتطرحهُ عبر مسلسل "أم هارون"
مُحاولات قلب الحقائق وتغيير الأدوار ليست جديدة بطبيعة الحال، ولكنّها أخذت منحىً تصاعديًا مُريبًا خلال السنوات الأخيرة، تمخّض عنه ما يُعرف بـ"صفقة القرن" التي أخرجت إلى العلن مُخطّطات ترامب ونتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية بمباركة بعض الدول العربية التي سخّرت شبكاتها الإعلامية وذبابها الإلكترونيّ لتجميل هذه المخطّطات من خلال مهاجمة الفلسطينيين بمختلف الوسائل كمقدّمات لا بدّ منها للوصول إلى تطبيعٍ علنيّ كامل ومُتكامل يطمس مركزية القضية الفلسطينية عربيًا وإسلاميًا، ويغضّ الطرف عن مخطّطات تهويد أرض عربية عن بكرة أبيها، بل ويبررها ويشرعنها أيضًا خدمةً لعيون الكيان.
من بين الشبكات الإعلانية الكثيرة الناشطة على خطّ التطبيع واستهداف فلسطين والفلسطينيين، بدت شبكة MBC الأكثر نشاطًا مؤخّرًا في هذا المجال، حيث لعبت ولا تزال دورًا يفوق المطلوب منها فبدت صهيونية أكثر من الصهاينة، تصوّر الفلسطينيين كناكرين لما قدّمته السعودية دون مقابل، وتنبش وتزيّف تاريخ المنطقة لأجل إنجاز مسلسل كـ"أم هارون" الذي يتناول مظلومية مُزيّفة لليهود في دولة الكويت كمحاولة لإثارة الشعور بالذنب عند الشعوب العربية تجاه اليهود العرب، ومقدّمة لتذويب الحدود الفاصلة بين إسرائيل واليهود العرب.
في ظلّ هذا النشاط المُتصاعد لتبرير علاقات تطبيعية قادمة، وتبديل الأدوار وتزييف الحقائق التاريخية الثابتة، أطّلت منظّمة صهيونية تُسمّى "إم ترتسو" على العرب بكتيّب يحمل عنوان "النكبة الهراء" افتتحهُ مؤلّفيه إيريز تدمور وإيرئيل سيغال بالحديث عن إبادة النازيين لنصف مليون يهودي سنة 1944 واصفين ما حدث بالنكبة التي طالت "أبناء شعب إسرائيل" وطُمِّست وغُيِّبت وأُهمِلت كغيرها من نكبات اليهود لصالح نكبة العصر الحديث، أي النكبة الفلسطينية التي يعتبرها الكُتيّب المُتصهين مجرّد هراء يجعل من النكبات اليهودية مجرّد حوادث عابرة.
الخطاب الذي جاء به الكُتيّب هو نفسه الخطّاب الذي تتبنّاه شاشة MBC وتطرحهُ عبر مسلسل "أم هارون"، لا سيما لجهة استعراض ما يسمّيه المؤلّفان النكبات التي عاشها اليهود على أراضي الدولة العربية، ممّا يعني أنّ الشاشة السعودية قدّمت خدمةً عظيمة للصهيونية بإنتاجها المسلسل الذي يُزيّف الحقائق ولا يرويها بحكايته الزائفة عن اليهود في الكويت والمظلومية التي عاشوها. وبينما يستعيد المسلسل شخصية أم هارون بعد أن زيّف السياقات التاريخية وأعاد خلق هذه الشخصية بما يتناسب مع الخطاب الصهيونيّ، يستعيد الكُتيّب في سياق روايته لسنوات ما قبل النكبة الصيدلي "جرشون بن تسيون" الذي يقول إنه لقي مصرعه على يد عشرات العرب الذين اقتحموا صيدليته.
استعادة الصيدلي وغيرها من الاستعادات جاءت في سياق قلب الحقائق وتبديل الأدوار، بحيث يصير من كان ظالمًا، ولا يزال، مظلومًا، على أن يصير المظلوم حتّى يومنا هذا ظالمًا سرق ونهب وقتل واعتدى على حرمات اليهود الذين حاولوا، كما يدّعي الكُتيّب، إظهار حسن نواياهم للفلسطينيين حينما قرروا الموافقة على قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامّة للأمم المتّحدة، والذي عارضه العرب الذين نُكبوا وفق ادعاءات المؤلّفان حينما انتصر "أبناء يعقوب" في ما يُسمى زيفًا "معركة التحرير" التي هي في الأساس معركة احتلال لأرضٍ عربية وتهجير لشعبها.
يُحاول الكُتيّب والمؤسّسة الذي تقف خلفه حرف معنى النكبة، وتحميل مسؤوليتها للفلسطينيين والعرب، والسبب قبول الصهاينة، وهذا محض كذب وافتراء، لقرار التقسيم سعيًا منهم لتحقيق السلام، بينما رفض العرب وأعلنوا في المقابل الحرب، أي أنّهم مسؤولين عمّا حدث، وأنّ "النكبة" صناعة عربية. في المقابل، يسعى الكُتيّب لإسقاط صفة لاجئ عن الفلسطينيين من خلال مجموعة أكاذيب منها أنّ القيادة العربية كانت تقوم بإخلاء المدن من "عرب إسرائيل" لغايات عديدة. بالإضافة إلى الادعاء بأنّ الفلسطينيين وصلوا إلى "أرض إسرائيل" المزعومة مُهاجرين، أي أنّها ليست أرضًا أولى، ولم يخرجوا منها مُكرهين، وبالتالي كيف يكونوا لاجئين؟ يتساءل المحتلون الصهاينة!
النكبة اليهودية أكثر خطورة من النكبة "العربية" (واستخدام "العربية" في هذا الكُتيّب، لا سيما "عرب إسرائيل" يأتي في سياق إنكار وجود فلسطين) بحسب المؤلّفان، لا سيما في الدول العربية حيث كانوا يتعرّضون للتنكيل والاضطهاد دون سبب. فمن بين ما يسردانه أنّ إدريس الأوّل أباد في القرن الثامن طوائف يهودية كاملة في المغرب، وأنّ ستّة آلاف يهودي قتلوا على يد المسلمين في مدينة فاس سنة 1033، وأنّ مئة ألف يهودي ذُبحوا في المدينة نفسها بعد تولّي سلالة الموحدين للسلطة، ونحو 120 ألفًا في مراكش. بالإضافة لعدد كبير من "المجازر" التي استمرّت حتّى 1948.
شأنها شأن المغرب، كانت الجزائر وفقًا لهذا الكُتيّب البروباغندي قاسية على اليهود برفقة ليبيا والعراق وسوريا واليمن وغيرها من الدولة العربية. والكُتيّب بإطلاقه لهذه الأحداث دون تثبّت أو أدلة إنّما يُحاول نشر الأكاذيب وتذويب الحدود الفاصلة بين اليهود والصهاينة، خدمةً لأجندة معروفة وواضحة تخدمها في الوقت نفسه شاشات عربية مُطبّعة ومتصهينة تسعى لإفراغ القضية الفلسطينية من معناها، وحرف المفردات المتعلقة بها، لا سيما النكبة.