اكتسب كتاب برهان غليون "عطب الذات" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، منذ صدوره في الـ2019 وحتى إعادة إصداره مرة أخرى 2020، أهمية استثنائية في الحياة السياسية السورية، ذلك أنه أول وثيقة نقدية ذات بعد معرفي، تتصدى بجرأة لأوجه القصور الذاتي التي عانت منها النخب السياسية السورية، في مسار تصديها لمهمة قيادة الانتفاضة الشعبية، التي فجرها السوريين في سعيهم للخلاص من دولة الطغيان الأسدي. كما أنها أول وثيقة تاريخية، مكتوبة بالمعايشة، معايشة صاحبها لتلك الوقائع والانخراط فيها. إنها مزيج ثر من السيرة الذاتية لمثقف، أبى على نفسه أن يعاينها ليس عبر التنظير والأمل والألم وحسب، بل ذهب حد الانخراط الكلي في جميع أنشطتها السياسية، أثناء فترة ترأسه لقيادة "المجلس الوطني السوري".
كتاب "عطب الذات" لبرهان غليون أول وثيقة نقدية ذات بعد معرفي، تتصدى بجرأة لأوجه القصور الذاتي التي عانت منها النخب السياسية السورية
لا يقيم غليون، في"عطب الذات" فرقًا كبيرًا بين مفهومي الانتفاضة الشعبية ومفهوم الثورة، بل يظل يستخدمها على طول الكتاب وعرضه كنوع من الترادف اللغوي، مع أن التفريق يقع في صلب أطروحته القائمة، على نقد النخبة السياسية التي عجزت عن جسر الفجوة بين هدف الانتفاضة الشعبية المنادية بإسقاط النظام، وهدف الثورة المنادي باستبداله بنظام ديمقراطي.
اقرأ/ي أيضًا: "عطب الذات" لبرهان غليون.. مقدمات للمآلات السورية
النخبة التي يتصدى لنقدها غليون، ليست النخبة التي عملت على قيادة الحراك الشعبي السلمي، المعروفة محليا بتنسيقيات الثورة. ذلك أن طبيعة الحراك السلمي القائم على الحشد والتعبئة، لم تكن تتطلب أكثر من قدرة تلك النخب على إثارة حماس الشارع المعارض للانخراط في أشكال الاحتجاج المختلفة، كما إقامة نوع من التنسيق الافتراضي بين قادة التنسيقيات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليتم الاتفاق على نوع الشعارات وأسماء "الجمع الثورية" التي كانت تشهد حراكًا جماهيرًا واسعًا.
مع تزايد العنف المخابراتي ضد الحراك السلمي، سواء عبر لجوء جلاوزته لقتل الناس السلميين في الشوارع، أو عبر لجوئهم لقتلهم في أقبية التعذيب، بقصد دفعهم الناس المحتجين للدفاع عن أنفسهم عبر التسلح. ومن ثم استثمار ذلك الإجراء الدفاعي بقصد تفريغ الاحتجاج السلمي من غرضه السياسي القائم على المطالبة باسقاط النظام، وربطه بالإرهاب الطائفي، كمقدمة مبيتة لإعلان الحرب الشاملة على أنصاره، تزايدت الحاجة لنوع جديد من النخب السياسية، التي كان عليها النهوض بمهمتين رئيسيتين؛ مهمة تنظيم دفاع الناس عن أنفسهم بوجهة سياسة الأرض المحروقة من جهة، ومهمة تشكيل البديل الوطني السياسي كمقدمة لنزعة الشرعية الدولية عن نظام الإجرام في دمشق، وتمهيد الطريق نحو التحول الديمقراطي.
في معرض نقده لتلك النخب السياسية، يكشف لنا غليون عن ضيق أفق تلك النخبة، التي أهدرت الوقت والجهد عبر مناوراتها التي كانت تهدف لانتزاع حصة الأسد لنفسها في قيادة الحراك، ومن ثم العمل لتثميره لصالح توجهها الحزبي والعقائدي. دون أن ترتقي بحس المسؤولية الجماعية لدرء المخاطر الوجودية كالإبادة والتصفية، التي ظل يتهدد بها النظام الناس ومصائرهم.
في كتابه "عطب الذات"، يكشف برهان غليون عن ضيق أفق النخبة السياسية السورية المعارضة التي أهدرت الوقت والجهد لانتزاع حصة الأسد لنفسها في قيادة الحراك
واحدة من أعمق أزمات النخبة التي يفرد لها غليون حيز واسع من وثيقته، هو افتقار أعضائها لأبسط أنواع الغيرية والتضحية التي تميز أعضاء الائتلاف السياسي الذي يتصدى لإنجاح قضية عامة. فبدلًا من عمل أعضاء المجلس الوطني الممثلين لكتلتهم الحزبية كفريق عمل واحد، عمد معظم المندوبين لإفشال عمل الرئيس غليون، لا لشيء سوى للقفز محله في القيادة، لاعتقاد راسخ لديهم بأن من يشغل منصب الرئاسة وحده القادر على فرض وجهة نظره على الجميع، وصولًا لتثميرها لصالحها الحزبي في المستقبل.
اقرأ/ي أيضًا: برهان غليون يقدم سيرة شخصية لـ"وقائع ثورة لم تكتمل"
فمن أجل تعويض ضعف حضور "إعلان دمشق" في واقع الاحتجاجات المسلحة، عمد التجمع إلى أسلوب التخلص من قيادة زعمية المستقل، غليون، عبر اقتراحاتهم المتكررة لتقليص فترة الرئاسة الدورية لرئيس المجلس، مرة عبر اقتراح بقائه لفترة شهر، ومرة عبر الاصرار على عدم التمديد له لفترة لا تتجاوز الثلاثة أشهر. وهو الأمر الذي يضر أشد الضرر بفكرة استقرار القيادة لتحقيق التراكم السياسي والميداني المطلوب.
في حين لجأ مندوبو الإخوان المسلمين إلى عرقلة عمل المجلس في التوصل إلى توحيد كتائب الجيش الحر، أو وضع بعض من كتائبه تحت أمرة قيادته، في توطئة لربط العمل العسكري باستراتيجيات العمل السياسي ومتطلباته. لاعتقادهم أن مثل هذا التوحيد يضف دوره القيادي في عمل مثل هذا الجيش، الذي انتهى بالمطاف إلى أن يصبح جيوشًا وإمارات وطوائف، تتنازع على السيادة والسيطرة فيما بينها أكثر ما تتنازع على هدف إسقاط النظام.
في سبيل فهم السلوك السياسي لمجموعة الفرقاء (إعلان دمشق، مجموعة الـ 74، الإخوان المسلمين) الذين عملوا تحت قبة الهئية القيادية الأولى للمعارضة، يرده غليون إلى ضعف ممارسة تلك النخب للممارسة السياسية في ظروف العمل الطبيعي، الذي يجب أن تمارس فيها السياسة. فلقد ولدت ظروف العمل السري، جميع أزمات الثقة بين أطرافها، وميلها لأساليب التشاحن والتنازع بدلًا من التآلف والتحالف. كما أن معايشة تلك النخب لطريقة صنع النخب في نظام الأسد جعلها على شاكلته، الأمر الذي أدى لتشربها الكثير من قيمها وأمراضها، من شاكلة ضعف الحس بالمسؤولية الجماعية، التي تقدم المصلحة الشخصية على الجماعية، أو من شاكلة ضعف التحلي بروح المبادرة، التي تلقي على الرئيس مهمة القيام بجميع المهام الملقاة على عاتقها.
لا يجادل المرء كثيرًا في صدقية الأمراض السلوكية، التي أوردها غليون في معرض تفسيره لسلوك المعارضة، غير أن طبيعة وعيها الايدولوجي المتمثل بالتعامل مع الدولة كجاهز عنفي، يتيح لمن يقبض عليه صبغ المجتمع بصبغته الأيديولوجية، كما التفرغ لإدارة المجتمع بمفرده بمعزل عن الفرقاء الآخرين، قد يكون هو العامل المرضي في سلوك النخبة السياسية المعارضة.
إن السبيل لتجاوز عطب النخب السياسية هو في اعتناقها لتبني النهج الديمقراطي، القائم على الفهم العقلاني لعلاقة العقائد بالأحزاب، وعلاقة الأحزاب بالدولة
فعندما يعجز الحزب السياسي عن فهم الدولة كجهاز حيادي وحقوقي، لا علاقة له من قريب أو بعيد بعقائد الحزب الذي يتولى شؤون الحكومة، وأن مهمة الحزب العقائدي في الحكم ليس في إجبار الناس على اتباع عقائده، بقدر ما يتعلق ذلك بإدارة شؤون حياتهم اليومية، عندها لن يتوانى عن التعامل مع مبدأ التآمر والكيدية من أجل إفشال الحليف والحلول محله، لاعتقاده أن التحالف ما هو إلا قضية مرحلية وتوطئة لإزالة الخصم من السياسية والمجتمع.
اقرأ/ي أيضًا: برهان غليون: الرهان دائمًا على الشعب
لا يمكن فهم سلوك تلك النخبة السياسية إلا عبر فهم وعيها اللاديمقراطي لدور كل من العقيدة والحزب والدولة في المجتمع. ففي النظام الديمقراطي، يختص المجتمع بتوليد العقائد أي تكن، فيما يقتصر دور الدولة على حماية تلك العقائد وضمان حرية معتقديها. فليست المشكلة بوجود عقائد دينية أو لا دينية في المجتمع، بل المشكلة بعدم الإقرار بأحقية وجودها في المجتمع. كما أن المشكلة ليست في تشكيل تلك الأحزاب استنادًا لتلك العقائد، كأن نرى حزبًا علنيًا لجماعة الإخوان المسلمين، أو آخر ذا مرجعية سلفية أو صوفية، في الوقت الذي نرى فيها حزبًا ذا مرجعية ماركسية أو قومية، بل المشكلة بأن تستخدم تلك الأحزاب جهاز الدولة المحايد في فرض عقائدها على الجميع، الأمر الذي يعدينا لمربع الاستبداد الأول الذي تنهض عليه دولة الأسد.
إن السبيل لتجاوز عطب النخب السياسية هو في اعتناقها لتبني النهج الديمقراطي، القائم على الفهم العقلاني لعلاقة العقائد بالأحزاب، وعلاقة الأحزاب بالدولة، على نحو يخرج الناس من مخاوف الأسلمة والعلمنة، التي تنتمي إلى عالم العقائد لا إلى عالم الإدارة اليومية لشؤون الناس. أما ما دون ذلك، فإننا سنظل محكومين بفلسفة الاستبداد السياسي التي تزاوج بين عقيدة الحزب السياسي وعقيدة الدولة، مع طرد ونفي كل من يتعارض مع فلسفتها العقائدية. وتظل المخاوف مشرعة من أن تتحول الانتفاضات الشعبية ضد الاستبداد إلى توليد نوع آخر من الاستبداد، ودورة أخرى من العنف المجتمعي، الموصل إلى العدم.
اقرأ/ي أيضًا: