يستعيد المؤرّخ اللبنانيّ وجيه كوثراني نصوص ومقالات محمد رشيد رضا (1865-1935) المنشورة في مجلّة "المنار" من باب أنّ مؤلّفات المفكّر الإسلاميّ لا تحمل، غالبًا، آراءه ومواقفه إزاء حوادث معيّنة، على عكس النصوص المستعادة في كتاب "مختارات سياسية من مجلّة المنار لرشيد رضا" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019) والتي جاءت بصيغة مختارات سياسية وموضوعات ومواقف في مرحلة تاريخية حاشدة بالحوادث.
يتعامل محمد رشيد رضا مع نهاية الحروب الصليبية التي خسرها الأوروبيين كنقطة تحوّل مسؤولة عن التبدّلات التي طرأت على واقع العلاقة بين أوروبّا والمسلمين العرب. فبينما اتّخذ الطرف الأوّل المهزوم من هذه الحادثة مبدأ لحياة جديدة، ودافعًا للتوجّه نحو العلم والعمل أيضًا، كان المسلمون، بحسب رضا، قد اتّخذوا مسارًا معاكسًا تمامًا، فتمكّن منهم الضعف والانكسار والوهن، وحلّ بهم الجهل والكسل والتفرّق، عكس الأوروبيين الذين باتوا أصحاب علم وصناعة واجتماع واعتصام.
ينفي محمد رشيد رضا تعصب المسلمين، ويرى أنّ الهدف من ترويج مقولاتٍ كهذه هو تقييدهم
أفسح المسلمون من خلال ما تراكم عندهم من تفرقة وشقاق وجهل المجال للأوروبيين ليكونوا أسيادًا عليهم بعد أن استولوا على بلادهم، وتعاملوا معهم بلغة القسوة التي برّرها الأوروبيون بقولهم أنّها موجّهة للحدّ من تعصّب المسلمين لدينهم باعتباره الجامعة الوحيدة لهم. الأمر الذي ينفيه محمد رشيد رضا، مؤكّدًا أنّ المسلمين لم يكونوا متعصّبين، وأنّ الهدف من ترويج مقولاتٍ كهذه هو تقييد المسلمين، ولجم تحركّاتهم تحت ذريعة أنّ شرّهم سيقع على من يخالفهم إن تُركوا دون رقيب.
اقرأ/ي أيضًا: 3 كتب عن المثقف.. الأدوار والمواقع
لكنّ تصرّفات الأوروبيين وفقًا لمؤلّف "الخلافة" مهّدت لتكوين العصبية عند المسلمين دون أن تتحوّل إلى شأنٍ عام، وإنّما ظلّت محصورة ضمن نطاقٍ ضيّق وفئةٍ قليلة من المسلمين الذين رأوا أنّ الوقوف في وجه الأوروبيين يحتاج إلى عصبية للدين. يُميّز رضا هنا بين ثلاثة أنواع من المسلمين: المشتغلون بعلوم الدين، المشتغلون بعلوم أوروبّا، والعوام. يعرّف النوع الأوّل بأنّه صاحب الاعتقاد بأنّ الذمّي والمعاهد والمستأمن والمخالفين للمسلمين في الدين من غير المتحاربين، يُحرّم الاعتداء عليهم، بل يجب حمايتهم ممّن يفعل ذلك. وهم بهذا الاعتقاد يقفون على النقيض من النوع الثالث، أي العوام الذين يعتقدون أنّ السلطان إذا أمر بالاعتداء على المخالف، وجبت طاعته.
أمّا الصنف الثاني، أي المتعلّمين للعلوم الأوروبية، فأكثرهم بحسب رشيد رضا لا يمتازون عن العوام في علمهم وشعورهم بالدين، ومنهم المارق منه، ولكنّهم أشدّ حرصًا على السلطة من غيرهم، ولا شيء ينفخ فيهم روح التعصّب لها مثل وقوفهم على مطامع الأوروبيين، أي أنّ ميلهم إلى التعصب يأخذ طابعًا سياسيًا أكثر منه دينيًا. ضمن هذا السياق، أي سياق الحديث عن الأوروبيين والسلطة، يقول الكاتب إنّ استفادة الشرق من الغرب انحصرت ضمن إطار معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة، واصطباغ نفوسهم بها، حتّى اندفعوا إلى استبدال الحكم المقيّد بالشورى والشريعة بالحكم المطلق الموكول إلى إدارة الأفراد.
وبشأن السلطة، بما هي دولة مستقلّة، يراها صاحب "الوحدة الإسلامية" ضرورة للعرب، لا سيما بعد ضعف الأمّة العربية وتراجع مزاياها ولغتها، وبعد أن أهملت فيها شريعتها بالشكل الذي كاد أن يفنيها بفنائها. بمعنى أنّها، الدولة، العامل الذي قد يحول بين الأمّة وانهيارها، وإن كان للبعض رؤية مفادها أنّ الدولة نفسها أمرًا متعذّرًا ومتعسّرًا بسبب خشية المسلمين من غير العرب من أن يكون السعي إلى دولة عربية أمرًا يفضي إلى اضعاف الدولة العثمانية التي لم يبقى للمسلمين دولة غيرها.
يدحض رشيد رضا في حديثه المقولات التي تفيد بأنّ عدم تصدّي العرب لإنشاء دولة جديدة هو الخوف من قوّة الدولة العثمانية من جهة، وتفرّق العرب وتعذّر اتّفاق أمرائهم من جهة ثانية. لأنّ السبب الحقيقي وفقًا لرؤيته هو الإسلام وأوروبّا، فالإسلام أزال من أنفس العرب العصبية الجنسية، باستثناء من غلب عليهم البداوة، أولئك الذين لا يخضعون، بفعل الأخلاق والغرائز التي توارثوها، إلّا لسلطة رؤسائهم من أبناء جنسهم، بل من رؤساء عشائرهم. أمّا من غلبت عليهم الحضارة، فما زالوا يألفون سلطة الأعاجم من الملوك والسلاطين الذين يتولّون أمرهم ويحكمون بشريعتهم، بل هان عليهم أيضًا كما يرد في حديثه ادّعاء هؤلاء، السلاطين الأعاجم، للخلافة النبوية، ورضوا بذلك واطمأنوا له.
يربط محمد رشيد رضا عودة العصبية إلى العرب بتحامل الترك الاتّحاديين عليهم، ومحاولات التتريك بالقوّة
يُحيل سبب خضوع هذه الفئة لسلطة الأعاجم المصرّين على أعجميتهم، والذين لا يستمدّون سلطتهم من خليفة قرشي عربي، الترك تحديدًا، إلى إشراف السلاطين على مجموعهم المتفرّق من شاهق القوّة العسكرية، والفتاوى الشرعية، ومن باب المصلحة الإسلامية التي ألغت بشكلٍ شبه كامل العصبية العربية. ثم يربط رضا عودة العصبية إلى العرب بتحامل الترك الاتّحاديين عليهم، ومحاولات التتريك بالقوّة، الأمر الذي دفع بنبهاء العرب إلى إدراك أنّ أمّتهم ولغتهم عرضة للزوال من السلطنة العثمانية.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "في تشريح الهزيمة".. نكسة 1967 كمحصلة لسلسلة من الهزائم
ولأنّ الدين الإسلامي، وفقًا لرأي الكثير من علماء تلك الفترة، يقوى بلغته العربية، ويضعف إن ضعفت، بدأت العوامل التي كانت تمنع إحياء الجنسية العربية بالزوال، وحلّت مكانها عوامل عديدة تشدّد على أهمية إحيائها. ولأنّ اتّقاء العرب للشقاق بينهم وبين الترك خوفًا من زوال الدولة واستيلاء الأجانب عليها كان سببًا لعدم إحياء الجنسية العربية، فإنّ مبادرة الأتراك الاتحاديين إلى الشقاق يُزيح أي مسؤولية قد تترتّب على العرب، باعتبارهم الطرف غير المبادر للشقاق. وبشرحه هذا، يفسّر محمد رشيد رضا سبب إحالته عدم تصدّي العرب لإقامة دولتهم المستقلّة إلى: الإسلام والخوف من أوروبا.
اقرأ/ي أيضًا:
مُرافعة دفاعية في كتاب "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها"
حزب الله ومسألة الدولة المدنية وولاية الفقيه والطائفية السياسية