"من من العامة المؤمنين اليوم قادر على فهم الكتاب المقدس والكتب التي كتبها علماؤنا باللاتينية؟ ومن لا يزال يلهمه حب الإنجيل والأنبياء والرسل؟ أليس شبابنا المسيحي كلهم.. مميزين بتعليمهم الأجنبي وإتقانهم العربية وفصاحتهم فيها؟ فهم شغوفون بدراسة الكتب العربية ويحرصون على قراءتها ويناقشونها بحماس.. فلا تكاد تجد في المجتمع المسيحي واحدًا في الألف قادرًا على تدبيج خطاب بلغة لاتينية سليمة.. رغم أن عددًا كبيرًا منهم قادر على التعبير بفصاحة وبراعة وعلم واسع عن بهاء اللغة العربية، وعلى نظم القوافي أكثر مما يستطيع العرب أنفسهم" ص 54.
نعيش كلنا في عالم يشهد، منذ أن وعينا به، تغريبًا وتحديثًا ممنهجيْن حتى كاد كل إنسان على وجه الأرض مهما كانت جنسيته أو لغته أو دينه
ليست المقولة أعلاه بمعارضة ساخرة لخطاب معاصر، أو شعار من نسج الخيال، بل هي صيحة فزع تاريخية حقيقية، أطلقها أحد أساقفة قرطبة في العصر الوسيط محذرًا المؤمنين اللاتينيين من خطر الغزو الثقافي العربي الذي بات يهدد عناصر الثقافة اللاتينية الأوروبية.
اقرأ/ي أيضًا: فرويد وأينشتاين.. مراسلات حول الحرب
نعيش كلنا في عالم يشهد، منذ أن وعينا به، تغريبًا وتحديثًا ممنهجيْن حتى كاد كل إنسان على وجه الأرض مهما كانت جنسيته أو لغته أو دينه، يمارس حياته اليوم وفق الوصفة الغربية الليبرالية، التي بتنا لا نعرف طريقة أخرى غيرها للعيش والإقامة على الكوكب.
إلا أن الوضع كان على النقيض مما هو عليه الآن أيام كان العرب والمسلمون القوة العظمى في العالم، حيث توسعت إمبراطوريتهم لتبلغ حدود الهند الصيني شرقًا واسبانيا غربًا. وقد تبع تلك الهيمنة الجغراسياسية والعسكرية تهجين واسع النطاق للغة والثقافة والعمران، ليس فقط للأراضي التي كانت تحت الحكم الإسلامي، بل كذلك البلاد المجاورة لها من خلال اختلاط السكان والرحلات وحتى الغزوات والقرصنة، إلى جانب الترجمة والتعريب والمثاقفة التي هي في الأساس موضوع دراسة مفصلة للباحثة دوروثي ميتليتسكي في كتابها مسألة العربي في انجلترا العصور الوسطى الذي صدر سنة 1977 عن جامعة ييل (Yale University) وظهرت أول ترجمة له إلى العربية سنة 2021 عن الشبكة العربية للأبحاث و النشر ببيروت.
ينقسم الكتاب إلى قسمين كبيرين معنونين بـ"المعرفة العلمية والفلسفية" و"التراث الأدبي". في القسم الأول تعرض الكاتبة باستفاضة ما وصلت إليه المعرفة العربية بأنواعها خلال العصر الوسيط، من علم النجوم والخيمياء والطب وإفادتها من نصوص القدماء مثل أفلاطون وأرسطو وبطليموس وبروكلوس لايساوس.
أمام هذا التفوق العلمي والحضاري العربي تعرض المؤلفة عددًا كبيرًا من المقولات الشهيرة لمثقفين وسياسيين ورجال دين لاتينيين في ذلك العصر تعبر كلها عن العلاقة المزدوجة والنظرة المركّبة للآخر المسلم، والتي تتسم أساسًا بالخوف والشيطنة، وفي نفس الوقت بالفضول والإعجاب وإرادة التشبّه. تفسر هذه العلاقة المركبة ما سماه المترجم في تقديمه للكتاب مسار النقل والاستيعاب والتحويل أو التنصير: "كانت اللغة والثقافة العربيتان مصدر خطر لارتباطهما بالإسلام، لكن صيحات التنبيه من الخطر تحولت سريعًا إلى صيحات دعوة إلى نقل مصادر هذه الثقافة، ولم يكن هدف الدرس والتحصيل في البداية سوى دعم المواجهة العسكرية بأخرى ثقافية. فقد رأى المنصّرون على اختلاف أشكالهم أن الهرطقة الماهومتية لا يمكن أن تحارب إلا بعد أن تُفهم"ص 17.
كانت اللغة والثقافة العربيتان مصدر خطر لارتباطهما بالإسلام، لكن صيحات التنبيه من الخطر تحولت سريعًا إلى صيحات دعوة إلى نقل مصادر هذه الثقافة
تنطلق إذًا في بداية القرن الثاني عشر حركة ترجمة من العربية إلى اللاتينية واللغات المتفرعة منها، أبطال هذه المرحلة هم بطرس المبجل، وموشييه سافاردي اليهودي المتنصر الذي صار يسمى بيتر ألفونسي، أديلار الباثي، روبرت أوف كيتون، روجر بيكون، مايكل سكوت، وكثيرون غيرهم.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "المشي فلسفةً".. معنى المشي وأثره
سعى هؤلاء المترجمون الرحالة إلى المعرفة العربية أينما كانت وأفنى أغلبهم عمرًا في ملاحقة نصوص الكتب العربية أينما سمعوا عن وجودها. وكانت عملية الترجمة تتم عبر مراحل ويشترك في إنجازها أكثر من شخص، إذ لم يثنِ جهل بعضهم بالعربية عن الشروع في نقل المتون إلى اللاتينية بالاستعانة بمعاونين ومستعربين تذكرهم المؤلفة تباعًا.
إلا أن حركة التعريب هذه لم تكن "رومانسية" تمامًا حسب تعبير الكاتبة، فكما كان الأمر محفوفًا بالمصاعب والمعارضات بالنسبة للمترجمين العرب حين انكبوا قبل قرون على ترجمة أمهات الكتب اليونانية، كان الأمر ربما أصعب بالنسبة لحركة النقل عن العربية، إذ واجه أكثر هؤلاء المترجمون المسيحيون صعوبات ومعارضات جمة من العامة ومن السلطة الدينية على حد سواء، بالرغم من حرصهم ـ أي المترجمون ـ على تنصير وتطويع المادة التي يترجمونها لتتلاءم مع التقاليد والدين المسيحيين.
يظهر مثل هذا الصراع على سبيل المثال في ما أورده أديلار الباثي (Adilardus von Path) في كتابه "رسائل في الطبيعة": "تعهدت بكتابة رسالة أعلم علم اليقين أنها تفيد القراء، لا أعلم إن كانت تسرّهم. فهذا الجيل ولد برذيلة اعتبار كل ما يأتي به المحدثون لا يستحق القبول، لذا يلزم عليّ عندما أود الإعلان عن اكتشافي أن أنسبه إلى شخص غريب فأقول: قالها فلان وليس أنا. أي إذا أردت أن أُسمع فلا بد أن أدّعي أن مرجعًا أعلى هو مصدر آرائي وليس أنا"ص 132.
مرة أخرى تتشابه التجربة الأوروبية في الترجمة عن العربية مع تجربة العرب في تعريب وتفسير الفلسفة اليونانية في العهد العباسي، إذ نجد أن الهبة التي ميزت روح كلا العصرين من أجل ترجمة كل ما تقع عليه اليد من متون، تجاوزت كونها عمليات ترجمة متفرقة دافعها الوحيد الشغف وحب الحكمة لدى أفراد من النخبة. كما دعمت السلطة العباسية الترجمة والمترجمين في القرن الثامن، نجد أن الأمير هنري الأول كان في مقدمة الداعين إلى الاستفادة من علم العرب وفلسفتهم إثر استعادة الأندلس.
تتشابه التجربة الأوروبية في الترجمة عن العربية مع تجربة العرب في تعريب وتفسير الفلسفة اليونانية في العهد العباسي
كان لرجال الكنيسة كذلك دور محوري في ترغيب الدارسين في ترجمة المؤلفات العربية، والتعليق عليها و"بيان انحرافها"، وذلك لدوافع عقدية هدفها محاربة "هرطقة ماهوميت" وهو ما نجح فيه لاهوتيون كثر من أمثال بطرس المبجل، وبيتر ألفونسي الذين رصدا مبالغ ومكافآت كبيرة للمترجمين الرحالة الذي أخذوا على عاتقهم هذه المهمة، بالرغم من اختلاف اهتمامات بعضهم الأصلية.
اقرأ/ي أيضًا: الطاعون.. صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية
تعتبر مصادر كثيرة، ومنها الكتاب الذي بين أيدينا أن الفكرة المغلوطة عن الإسلام وعن العرب التي عمل بطرس المبجل وبيتر ألفونسي ومن عاصرهما من رواد حركة الترجمة عن العربية، ضلت على حالها في مخيال الغرب المسيحي لقرون لاحقة، و لا تزال إلى اليوم تلعب دورا في ما يشهده العالم من تنافر ثقافي، ذي أصول دينية، رغم جهود فكرية عديدة سعت إلى تصحيح النظرة العامة للحضارة الإسلامية.
جهل وتجاهل متبادلان
إن المقولة الشهيرة بأن "العدو هو دائمًا شخص لم يتسنّ لنا أن نسمع حكايته" تبدو صحيحة إلى أبعد الحدود هنا، فبمضيّنا أكثر في قراءة كتاب مسألة العربي، نكتشف كمًا كبيرًا من الجهل النابع من الاختلاف من جهة، والتجاهل المتعمد والتبنّي السهل للمغالطات حول الآخر من جهة، بين العالمين الإسلامي والمسيحي.
كان العرب يسمون كل بلاد شمال المتوسط ومن غير العرب مجوسًا، كما كان المسلمون يسمّون عند اللاتينيين بـ"السراسنة" (Saracen) وهي تسمية غامضة المصدر تحاول ميتليتسكي فك شفرتها وتتبع باثولوجيا نشوئها واستخدامها. وفضلًا عن التحريفات في التسميات والتي يمكن إلى حد ما تفهمها، كمثل تعدد الصيغ التي يذكر بها نبي الإسلام (ماهوميت، ماهوند، ماخوميت...) نجد فكرة مفصلية في تاريخ تعامل المسيحيين مع المسلمين، وتتمثل في تصنيف الدين الإسلامي كدين وثني، وإنكار صفة التوحيد عنه.
يمثل كتاب "مسألة العربي" شهادة أخرى دامغة ومفصّلة، تثبت التأثر البنيوي للعقل والتفكير الغربيين بالمعرفة العربية الإسلامية في تلك الحقبة الفاصلة من تاريخ أوروبا
بالنسبة للمؤلفة فإن أهم من ساهم في إرساء هذه الفكر هو بطرس (أو بيتر) ألفونسي الذي ربط ركن لطواف بالكعبة بالوثنية والأديان العربية القديمة التي كانت تمارس في مدينة مكة المقدسة.
العربي في الأدب الأوروبي القروسطي
في القسم الثاني من الكتاب يكون التركيز كاملًا على أهم أشكال التعبير الأدبي في تلك الحقبة، و هو الرومانسة بما هي ضرب من القصيدة المحكية الشعبية، تتناول عادة بطولات وقصص حب تمزج بين الأسطوري والتاريخي، و من خلال مادة ضخمة بعضها باللاتينية و بعضها من الانجليزية الوسيطة والفرنسية وحتى العبرية، تقوم دوروثي ميتليتسكي بتتبع تأثر هذا الجنس الأدبي بمسألة العربي، أي الشخصيات العربية التاريخية و الخيالية على حد سواء، التي تسللت إلى هذه المحكيات إلى جانب المواضيع التي زودت بها المعارك والصراعات بين العالمين الإسلامي والمسيحي الرومانسات، والتي صارت في وقت من الأوقات تعتمد كمادة أكثر مصداقية من البحوث التاريخية: "إن انشودة رولان (The song of Roland) شكل فكي وفني عبرت فيه الحضارة الغربية القروسطية عن سعيها المضني لمواكبة الغزو الاسلامي الكاسح القادم من إسبانيا. اعتبر الجمهور القروسطي هذه الملحمة أغنية تاريخية تنافس الكتابة التاريخية"ص247
اقرأ/ي أيضًا: المغول بين الأسطورة والتاريخ
لا يكتفي الكتاب بتشريح الرومانسات الأوروبية، وخاصة الإنجليزية من حيث الموضوع والمسائل الثقافية الطارئة عليها من الحضارة الشرقية في تلك الفترة، بل يمضي أكثر من ذلك حيث يكشف التأثيرات الجمالية والفنية في الأدب، ويظهر ذلك في التغييرات التي تسربت شيئا فشيء إلى الأوزان الشعرية المستمدة من الموشحات وشعر "الزجل" الأندلسيين والتي عُدّت "أول نبع للقصيدة الغنائية الأوروبية والنموذج الأصلي لأغاني الحب (cantigas de amor)" ص440
من الصعب حقًا الإحاطة بهذا البحث بصفحاته الـ 477 ومناقشتها بالتفصيل، إلا أنه من المهم الإشادة بالعمل الجبار الذي قام به المترجم د.شكري مجاهد، لا فقط في نقل الكتاب إلى العربية وتحقيق مصادره، بل كذلك في تقديمه المطول للعمل، والذي عمل من خلاله على تسهيل ولوج القارئ غير المتخصص إلى مادة بهذه الضخامة عن أجناس أدبية ونطاقات معرفية لم نعد نعرف عنها إلا النزر القليل وقد أزاحتها نظريات المعرفة الحديثة بتفرّعاتها.
يمثل كتاب "مسألة العربي في انجلترا العصور الوسطى" شهادة أخرى دامغة ومفصّلة، من باحثة غربية، تثبت التأثر البنيوي للعقل والتفكير الغربيين بالمعرفة العربية الإسلامية في تلك الحقبة الفاصلة من تاريخ أوروبا، وترجمة الكتاب في هذا الوقت يمكن أن تقرأ كردّ فكري على الكثير من الأفكار والكتب التي باتت تظهر من وقت لآخر، يسعى أصحابها من خلالها إلى زعزعة ثوابت مؤرخي الأفكار وإجماعهم حول الدور الهام للعرب وعلومهم وفلسفتهم في نهضة أوروبا، لعل أشهر هذه الأعمال كتاب "أرسطو في جبل القديس ميشيل" (Aristote au Mont Saint-Michel) للمؤرخ الفرنسي سيلفيان جوجنهايم، الذي أثار جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية فور صدوره لما تضمنه من إنكار صريح لأي أثر أو دور للفلاسفة والمعلقين العرب في نقل الفلسفة اليونانية والمراكمة عليها.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "الدولة نظريات وقضايا".. التحول بين المفهوم والتجليات
كتاب "دم الأخوين".. قراءة في وظائف العنف وطقوسه في الحروب الأهلية