"هنالك دائمًا فلسفة بالنسبة لأولئك الذي يفتقرون إلى الشجاعة". هكذا جاء في دفاتر ألبير كامو الأديب والفيلسوف الفرنسي. المعنى واضح من وراء قولة كامو وهي أن حضور فعل التفلسف (بالمعنى المحقّر للكلمة) يكون عادة كنتيجة لغياب فضيلة الشجاعة، أي أن الذات التي تفتقر لهذه الفضيلة تميل إلى أن تشرعن ذلك الغياب من خلال ربط الفعل الشجاع كفضيلة ربطًا تعسّفيًا ومضلّلًا بنقيصة إيتيقية مقابلة لها هي التهوّر، وتتجسّد هذه المخاتلة خاصة في الارتكاز على مفهوم "اللحظة السانحة"، وهو ما يرسل هذه الذات للعيش دائمًا إما في الماضي أو المستقبل، لكن دون القدرة على عيش الحاضر، لأن شرط العيش في الحاضر هو، بحسب ميشيل دي مونتاين، لا يكون إلا باعتبار كل لحظة على أنها اللحظة السانحة. من هنا، نستطيع أن نحمّل الشجاعة مسؤولية أنطولوجية هامة، باعتبار الفعل الشجاع يضطلع بهذا المعنى السابق، بالتأسيس لوعي واثق للذات بنفسها في هذا "الآن وهنا" الذي تطلق عليها سينتيا فلوري في كتابها "نهاية الشجاعة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2017، ترجمة عبد النبي كوارة) تسمية "كوجيتو الشجاعة الذي لا يعوض".
ترى سينتيا فلوري أن الشجاعة تقع في أعلى هرم الفضائل، أو هي فضيلة الفضائل، لأنه "بدون شجاعة، فنحن عاجزون عن القيام بأي من الفضائل الأخرى"
تحاول الفيلسوفة وأستاذة العلوم السياسية في كتابها الحفر داخل تاريخ مصطلح ومفهوم الشجاعة، وتجلياته الاجتماعية والسياسية من خلال تحليل الارث الأوروبي فيما يخص الشجاعة، وذلك انطلاقًا من هوميروس والسقراطيين، وصولًا إلى تمظهرات الشجاعة على الصعيد الفردي والجماعي في السلوكيات ما بعد الحديثة وديمقراطيات العولمة وما بعد نهاية التاريخ.
اقرأ/ي أيضًا: "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء" لفرانز فانون: عن كتاب لا يزال مظلومًا
تحمّل كاتبة "نهاية الشجاعة" المصطلح كمًّا هائلًا من الأبعاد والمفاهيم الفلسفة والأخلاقية المتشعبة في ما بينها، والتي سبق تناولها من قبل مفكرين آخرين كل من زاوية دراسته، لتتمكن من صياغة ما يشبه البيان (Manifesto) التعريفي أو التأريخي لمصطلح الشجاعة، وهو ما يمثل الجزء الأول من كتابها، وسمّته "آيات الشجاعة".
"هل التمرن على الموت هو التمرن على الشجاعة؟ أن تعلم أن عليك أن تجسر بينما لا شيء يرتكز على أساس، هل هذه هي الحياة؟ الحياة الكريمة؟ كيف يمكننا أن تعلم الشجاعة؟ كيف يمكننا أن نستعيدها؟ كيف نغذيها فلا تغادرنا أبدًا؟ فقدتُ الشجاعة بينما أشاهد المجتمع حيث أعيش من دون شجاعة. انزلقت في المجتمع وفي خضمه كما انخرطت يوميًّا في المفاوضة حول غياب الشجاعة [..] ثم أي معنى للإنسانية دون شجاعة، وإن كان سقوطي يبدو شاعريًا، فإن السقوط الجماعي لصوقٌ دبقٌ".
بالرغم من أن تقديم فلوري لكتابها يبدو شاعريًا وشخصيًا نوعًا ما إلا أن ما سمّته "آيات الشجاعة"، تنكبّ على دراسة المصطلح فلسفيًا من جميع جوانبه، الأخلاقية والتواصلية والجمالية والميتافيزيقية من خلال مساءلة لأعمال مونتسكيو وميكيافيلي وسارتر وهابرماس وجون رولز وتشارلز تايلور وأمارتيا سن وتوكفيل وباشلار ونيتشه وديوجين وأراغون وآخرين كثر.
ترى سينتيا فلوري أن الشجاعة تقع في أعلى هرم الفضائل، أو هي فضيلة الفضائل، لأنه "بدون شجاعة، فنحن عاجزون عن القيام بأي من الفضائل الأخرى" كما تخبرنا الشاعرة مايا أنجلو. هذه الفضيلة التي تمكننا، في حال تمكننا من تأسيس إبستيمولوجيا حقيقية لها من الخروج من النهايات الكئيبة للعصور أو التجارب (فردية كانت أم جماعية) نحو بدايات رحبة تقطع مع "الهمجية والعبث". فكل فلسفة عبثية أو متشائمة تظهر على الساحة تعزوها الكاتبة إلى غياب الفعل الشجاع الذي بإمكانه أن "يقاطع مهرجي المنطق معدومي الفائدة".
ابحثوا لكم عن عدو وانخرطوا في حربكم، حاربوا من أجل أفكاركم، وإذا انهارت فكرتكم دعوا صدقكم في الأقل ينشد النصر
"ابحثوا لكم عن عدو وانخرطوا في حربكم، حاربوا من أجل أفكاركم، وإذا انهارت فكرتكم دعوا صدقكم في الأقل ينشد النصر. أحبوا السلم كما لو أنه سبيل إلى حروب جديدة [...] إني لا أنصحكم بالعمل وإنما بالكفاح، ولا أنصحكم بالسلم وإنما بالنصر، وليكن عملكم كفاحًا وليكن سلمكم نصرًا، إذ لا يمكننا أن نلزم الصمت ونستطيب السلم إلا إذا كان في حوزتنا قوس ونبال [...] ولقد أنجزت الحرب والشجاعة أمورًا عظيمة أكثر مما أنجز حب القريب".
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "صفد في عهد الانتداب" لمصطفى العباسي.. المؤرّخ يُحرّر المدينة
تستشهد سينتيا فلوري بهذا المقطع من كلام زرادشت لتلاميذه، لتبيّن أنها تقرأ الأفكار النيتشوية من منظور أعمق من الصورة النمطية لها كأفكار هدامة لا ترقى الى القدرة على التحريض على التغيير، حيث تنعته بفيلسوف الشجاعة الذي لا يعلن عن نفسه، وهي بذلك تحيل إلى أن إبيستمولوجيا الشجاعة تقتضي أن تكون هذه الفضيلة حاضرة في كل الأمكنة والأزمنة، حيث يكف نشدان "النصر" أن يكون شرطًا للتحلي بالشجاعة، كما أنه، من جهة أخرى، ليس هنالك من إخفاق للعمل الشجاع، إذ إن الإنسان/المجتمع الشجاع يرى أن هناك دائمًا ما ينبغي القيام به، وتنفي هذه الأبستمولوجيا وجود أي سقف أو اكتمال للعمل الشجاع، لأن مشروعيته "تنهض فحسب من القصد الشجاع عند مروره إلى الفعل".
يفسّر الكتاب المعنى من وراء اعتبار الشجاعة أم الفضائل، بأن الفعل الشجاع (كما القول الجَسور للحقيقة) هو الوحيد الذي يملك القدرة على تحقيق تلك "الوثبة إلى الأمام" التي تضمن التجرد من الزمان والمكان (أو الظروف) وولوج الأبدية، ذلك أن بقية الفضائل كالعدالة والمساواة تحتاج إلى مدخل وتمهيد مسبق لكي تكون، بينما الشجاعة هي تكتسب كينونتها من الإرادة الخالصة للذات.
لكن كيف يمكن لنا نقل هذه الشجاعة الفردية إلى شجاعة جماعية؟ كيف يمكن أن نؤسس لشجاعة ديمقراطية، تكون ذات تأثير اجتماعي وسياسي؟ هذا هو السؤال الذي قالت سينتيا فلوري إنها تعرضت له في أغلب محاضراتها وجلسات النقاش. وهو ما يأخذنا إلى الجزء الثاني من الكتاب المعنون "سياسة الشجاعة".
تصحح فلوري هذا التساؤل كالآتي: "لم نعد هنا في لحظة التأسيس التي تحتاج إلى "إضافة"، وإنما في فترة التجسد والمعيش، لأن رهان الإصلاح هو شأن تطبيقي أكثر منه مبدئي أصلي، وهي فترة كانت تفتقر في آن إلى الشجاعة السياسية كما الخلقية. مع ذلك، من هنا كانت تبدأ عادة الحرمان السياسي للشجاعة. كيف يمكن إصلاح هذا الخلل؟ كيف يمكن إعادة تأسيس نظرية سياسية للشجاعة لا تكون في الحقيقة غير استغلال شعبوي لها؟".
من المظاهر التي تحذر منها الكاتبة في هذا الصدد، ما أسمته تزييفًا للعملية التواصلية السياسية، حيث يتقمص السياسي نوعًا من الكاريزمات التي تعمل على بناء صورة ممسرحة للزعيم أو الفاعل السياسي، لكنها لا تعدو أن تكون كاريزما مضلّلة تهدف إلى جعل صاحبها "زعيم الخيال والمخرج المسرحي الذي يفوضه المواطنون"، وهو من خلال فكرة التمويه هذه لفكرة التواصل واستبدالها بالفرجة، يسعى إلى جعل الإعجاب والترفيه أنجع وسيلة له كي لا يتقاسم شيئًا من سلطته مع الآخرين، وهي تساوي في هذا بين ماكسميليان روبسبيير، أحد قادة الثورة الفرنسية، و بين سيلفيو برلسكوني، رغم الاختلاف الجلي بين دوافع كل منهما ورجعيته، إلا أن كل ما من شأنه أن يصيب مفهوم التواصل عند السياسي من أمراض ما بعد ثقافية كما سمتها، وتقصد الارتياب الحاد والعياء والهستيريا التواصلية المفرطة، يقوم بجذبه شيئًا فشيئًا خارج منطقة الفعل السياسي الشجاع الحق.
يمثل كتاب "نهاية الشجاعة" محاولة عالية الأهمية للتفكّر في إحدى القيم الأكثر ضبابية بسبب ما مورس عليها من تشويش
تدعو الكاتبة إذًا إلى العمل الدائم على إرساء ميثاق للشجاعة وتفكيك مستمر لنسخ الأخلاق المزوّرة، وتعميم هذا العمل داخل كل مجالات المجتمع الديمقراطي، بدءًا بالأوساط المهنية، حيث تتمركز أول نواة لتدجين الجماهير وخنق كل إمكانية "وثبة إلى الأمام" رافضة لنظام ما.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "كيف تستجيب الجيوش للثورات؟".. في الأدوار الممكنة للمؤسسة العسكرية
يهدف أي ميثاق يتم إرساؤه إلى إيجاد صيغة تشاركية بين شتى المتدخلين للقبول المسبق بهذا القول الشجاع للحقيقة أيًا كان مأتاه، وذلك كما صاغه فوكو في كتابه الشهير حكم الذات وحكم الآخرين: "على الشعب والأمير والفرد أن يقبلوا بلعبة شجاعة قول الحقيقة [...] وانطلاقًا من هذا النوع من الميثاق الذي يقضي بأنه إذا أظهر صاحب شجاعة قول الحقيقة الحقيقية، فإن الذي يستقبل هذا القول الحقيقي أن يظهر سمو نفسه في قبول قولنا الحقيقة له. إن هذا النوع من الميثاق بين من يخاطر بقول الحقيقة وبين من يقبل بالاستماع لها، يوجد في قلب ما يمكن أن نسميه لعبة شجاعة قول الحقيقة".
من خلال تفكيك مختلف أشكال التزوير التي قد تطال فكرة الشجاعة الخلقيّة والسياسية، تطمح الكاتبة إلى بلورة مفهوم حديث لهذه الفضيلة يكون قد تجرد، في ماهيته وفي تطلعاته، من كل الشوائب التي قد تحيط به كالنزوع الى الاستعراض وبيع الأوهام، والشعبوية والانتخابوية، التي من شأنها أن تلتف على إمكانية انبثاق شجاعة ديمقراطية فاضلة وتجهض أي نوع من التغيير الراديكالي، بالتالي لا يكون فعل لشجاعة جوهريًّا وحقًّا إلا إذا تسلّح بنكران الذات أولًا، وتجرد من الانتقائية وما تدعوه (اقتباسًا عن أكسيل هونيت) تزويرًا للاعتراف الاجتماعي، كما ينبغي للذات في سبيل أن تكون شجاعة أن "ترفض إجراءات اللامنظورية/اللاظهورية" التي يُكرِهها الآخرون على الاستمرار بها، وتدفعها بها الرأسمالية في مراحلها المتقدمة إلى المزيد من القولبة والتدجين.
أخيرًا وقد توّجت سينتيا فلوري عملها بمفهوم خالص للشجاعة الخلقية والسياسية ورسمت ممرًّا توافقيًا يعنى بنقل الشجاعة الانطولوجية الذاتية إلى عمل شجاع وقول شجاع للحقيقة على الصعيد الجماعي الديمقراطي، تكشف لنا عن تجسّد تاريخي يكاد يكان مثاليًا لهذا المفهوم الخالص، والإرث النضالي السياسي والأدبي الهوغولي (نسبة لفيكتور هوغو) حيث تسلط الضوء على مواقف ومراحل حاسمة في مسيرة الشاعر و الروائي الفرنسي الذي شكلت أعماله ومقالاته وخطبه، في وجه انحراف سلطة لويس نابليون بونابارت ومن معه، المعنى الأدق والأسمى للقول الحقيقة وحمل عبئها دون اتكاء على الغير أو خمول أو تقسيم للأدوار والمسؤوليات، كما لو أنها الذات الوحيدة التي تحمل هم هذه الرسالة.
في النهاية، يمثل هذا الكتاب محاولة عالية الأهمية للتفكّر في إحدى القيم الأكثر ضبابية بسبب ما مورس عليها من تشويش، كما أنه يقدم رؤية تشخيصية عميقة ورصينة لما أسماه بـ"السقف الكئيب" لكل عصر من العصور التي تصل إليها الإنسانية، وهو يضعنا أمام حقيقة أننا بقدر ما هو محكوم علينا بالأمل، فنحن كذلك محكومون بالشجاعة للمرور والوثب إلى الأمام وتجاوز إنهاكنا الشخصي، كما إحباطنا الجماعي.
بقدر ما هو محكوم علينا بالأمل، فنحن كذلك محكومون بالشجاعة للمرور والوثب إلى الأمام وتجاوز إنهاكنا الشخصي، كما إحباطنا الجماعي
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "ساطع الحُصْري من العثمنة إلى العروبة".. أم جذور البيداغوجيا القومية؟
من الأشياء القليلة التي يمكننا أن نعيبها على هذا الكتاب، رغم أهميته البالغة، هو الطابع المركزي الأوروبي (Eurocentric) الذي يكتسي به التفكير من أول الكتاب إلى آخره، فالمرجعيات الفلسفية الذي نهلت منها المؤلفة، من الأثينيين القدامى إلى المفكرين والأدباء المعاصرين، لم يخرج قيد أنملة عن العقل ونمط التفكير الغربيين، في حين يزخر العالم اللاغربي بتجارب فكرية ونضالية من شأنها أن تغني بحثًا كهذا مثل التجربة الغاندية، والمرجعية البوذية في النضال اللاعنيف والمبادئ المتعلقة بها، والشجاعة إحداها، كما في الإرث الشعري والأدبي العربي والفارسي القديم الكثير مما يثري وبقوة عملية التفكير في الشجاعة كفضيلة كونية إنسانية في المطلق.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "مدن متمردة".. حقُنا في المدينة
كتاب "روح الديمقراطية".. قدر الجغرافيا وسؤال النفط في العالم العربي