يجد عالم الاجتماع ومخرج الأفلام الوثائقية روبرت راسل سببًا مشتركًا لمعظم الأزمات التي تخوضها البشرية في الوقت الراهن، ألا وهو المضاربة على الأسعار في كتاب وسمه بـ "حروب الأسعار" (Price Wars)، حيث يبين فيه كيف حلت حقبة من الفوضى الكارثية نتيجة المضاربات المالية في الأسواق. لا يستخلص الكاتب ما توصل إليه من سبب مشترك للأزمات العالمية والمحلية من نتيجة مؤامرة ما يختلقها بناء على أوهام ذاتية أو قوالب شعبوية، إنما يستقرئ تلك الأزمات في جهات الأرض ويربط بينها بعد بحث ودراسة، ليتوصل إلى هذا السبب المغرق في بساطته: الأسعار. فما هي العلاقة بين غزو أوكرانيا، الربيع العربي و"أطفال الأقفاص" على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية؟
ما هي العلاقة بين كل من غزو أوكرانيا والربيع العربي و"أطفال الأقفاص" على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية؟
لإعداد كتابه سافر راسل حول العالم لمعاينة كل تلك المناطق المتأثرة بتقلبات الأسعار، ووجد تشابكًا بين "تحرير الأسواق"، الفوضى والأسعار السلع الأساسية، خاصة بعد تحرير أسواق السلع الرئيسية بقانون كلينتون، قانون تحديث العقود الآجلة للسلع لعام 2000. سمح هذا القانون لوول ستريت بالمضاربة بحرية أكبر بكثير من السلع الأساسية: النفط، القمح، المعادن والقهوة، وعليه يجد راسل أن الأسواق تحولت بعد إصدار القانون إلى "كازينوهات"، حيث بدأت الأسعار بالارتفاع أو الانخفاض بفوارق هائلة دون تلك العلاقة المفترضة بين العرض والطلب.
مع فكرة "تأثير الفراشة"، يعتقد الكاتب أن الأحداث التي قد تبدو محلية لها عواقب بعيدة المدى. مثلًا، حين اندلعت حرائق الغابات في روسيا عام 2010 افترض المضاربون أنها ستؤدي حتمًا إلى نقص القمح، ما لم يحدث طبعًا، ولكن هذا الافتراض، أو التحكم في سوق القمح أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب عقود القمح الآجلة ما أدى بدوره إلى انطلاق شرارة الربيع الحرب، وصولًا إلى الحرب في أوكرانيا. وقد كانت أزمة القمح عام 2008 قد رفعت أسعار القمح آنذاك، ما زرع بذور أزمة عالمية واضطرابات، ولو ضيقة الأثر، في 48 دولة حول العالم، وبالتالي إلى حروب أهلية. ورغم أنه يطلق على أحداث 2008 و2010 تعبير "أزمات غذائية" إلا أنه قد أنتج في تلك السنوات غذاء أكثر من أي وقت مضى، أي أنها كانت في الواقع سنوات وفرة، أي أن "الأزمات الغذائية" كانت بالأحرى "أزمات أسعار المواد الغذائية" التي اختلقتها الأسواق. وهكذا تبدأ الفوضى في الأسواق المالية وتتحول الأزمات المحلية إلى أزمات عالمية، ما يؤدي أيضًا إلى ضعضعة المجتمعات. يرى الكاتب أن أعمال الشغب بسبب الغذاء وثورات الخبز والتضخم المتسارع وأزمات تكاليف المعيشة والهجرات الكبيرة كلها من عواقب قانون كلينتون عام 2000، ويتساءل لماذا لم نشهد مثل هذه الأزمات في الثمانيات والتسعينات.
بل إن هجرة اللاجئين الضخمة على مستوى العالم نتيجة الحروب، خاصة إلى أوروبا، كانت سببًا قويًا في البريكسيت. فالحروب في العالم العربي مثلًا أدت إلى موجات هجرة واسعة، وهذا أدى إلى ارتفاع الشعبوية اليمينية في أوروبا، لكن ليس هذا فقط، إنما أضيفت إليها الفوضى في السوق، وفوضى السوق تخلق فوضى في العالم الواقعي أيضًا، ما يؤدي إلى مزيد من الفوضى في السوق.
يأتي الكاتب بعدة أمثلة منها: عندما تقع حرب في مكان ما، ترتفع أسعار النفط تلقائيًا. وماذا يحدث عندما ترتفع أسعار النفط؟ يقترض الرئيس الفنزويلي السابق هوجو شافيز كميات ما الأموال قبل حملته الانتخابية، يوزعها بسخاء على شكل أجهزة تلفزيون وغسالات (ما يذكر هنا تمامًا بصدام حسين في السبعينات أيضًا). بوتين يملأ خزينة الحرب ويحدّث جيشه، بينما يتم تحويل الكثير من أموال النفط هذه إلى أصول غربية، على شكل عقارات في سان فرانسيسكو أو لندن أو نيويورك. وهذا يخلق أزمة.
ولكن حتى لو أخطأ المضاربون، كما حدث مع المخاوف في موسم القمح في روسيا، فإنهم هم أو من يراهن على تحركات الأسعار ويستفيدون منها، بينما يدفع سكان العالم ضريبة ألعابهم.
المثال الآخر الذي يسوقه المؤلف هو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). عندما استولت الإرهابيون على الموصل عام 2014 شهدت أسعار النفط قفزة كبيرة، ومع أن الموصل تقع على حقول النفط، إلا أنه لم يحدث نقص حقيقي في كميات استخراج النفط. عادة ينخفض الإنتاج وترتفع الأسعار حين تقوم الحرب في بلد نفطي، نتيجة قانون العرض والطلب، ولكن لا مبرر عقلاني ولا تاريخي لهذا، فغض النظر عن تدمير البينة التحتية، لا يتوقف استخراج النفط ولا تسويقه. فالدولة الإسلامية مثلًا كانت ستثابر على الاستخراج وتبيع النفط عبر تركيا. بل ربما يكون هذا التسويق سببًا لغزو حقول النفط. حين غزا جورج بوش العراق عام 2003 انخفضت أسعار النفط. لم يكن المضاربون الماليون قد سيطروا تمامًا على الأسواق المالية آنذاك، بل يسيّر تلك الأسواق أناس يعرفون أن الأولوية القصوى لبوش هي عدم التوقف عن استخراج النفط. ولكن أسعار النفط أو كميات الإنتاج شهدت علائق أخرى بعد ذلك، فعقب الغزو الروسي لجورجيا عام 2008 ارتفعت الأسعار، وبعد دفعة جديدة على الأسعار أعوام 2014 و2021 نتيجة المضاربات المالية البحتة، غزت روسيا أوكرانيا.
حتى لو أخطأ المضاربون، كما حدث مع المخاوف في موسم القمح في روسيا، فإنهم هم أو من يراهن على تحركات الأسعار ويستفيدون منها، بينما يدفع سكان العالم ضريبة ألعابهم
يعطي الكاتب مثالًا على كيفية استغلال الخوارزميات في فصل الأسعار عن الواقع. يربط بين الممثلة الأمريكية آن هاثاواي وسعر سهم مجموعة شركات Berkshire Hathaway. هنا كانت الأخبار السيئة عن الممثلة أخبارًا سيئة عن الشركة، مع أنه لا رابط بينهما سوى الاسم. كلما ظهر فيلم من بطولة Hathaway قفز سعر سهم شركة Hathaway، وحين تورطت الممثلة في حادث سير انخفض سعر السهم.
في لقاءات للكاتب مع المضاربين أشاروا إلى الخوارزميات التي يستخدمونها والتي تقرأ العناوين الرئيسية - مثل تقارير رويترز أو بلومبرغ - التي يتم إدخالها في الكمبيوتر. هذه الخوارزميات قادرة على التمييز بين الرسائل السلبية أو الإيجابية وتشتري وتبيع وفقًا لها.
بالعودة إلى موضع "أطفال الأقفاص"، يذكر الكاتب صدمتين تعرضت لهما غواتيمالا عامي 2018 و2019، نتيجة التغيرات المناخية. التقى بمزارعي القهوة الذين غزا حقولهم فطر جديد يسمونه "صدأ القهوة"، إثر التغيرات المناخية وتغير كميات الأمطار والرطوبة. بهذا تعين على المزارعين إنفاق المزيد على الأسمدة لمكافحة الفطر، فاقترضوا الأموال من المرابين المحليين بأسعار فائدة باهظة. إذًا، استدانوا فوق طاقتهم على أمل أن يبيعوا مواسم جيدة، ولكن أسعار البن انهارت عام 2018 - 2019، وبذلك تكبد المزارعون خسائر موجعة. وما الذي يفعله آلاف المزارعين المتضررين، المفلسين عمليًا؟ يبيعون بيوتهم ومنازلهم، وينطلقون للبحث عن ملجأ في الشمال، الولايات المتحدة الغنية. ورغم هذا لم يربط أحد صور الأطفال في الأقفاص على حدود الولايات المتحدة في عهد ترامب مع وول ستريت. لماذا؟ لأن قصص الوحوش المرعبة هي الأجمل، هي التي يتم نشرها في القصص والإعلام العالمي أيضًا. وبهذا أظهر لنا الإعلام الصورة التالية: ترامب وحش حبس الأطفال في الأقفاص. أما الجذور الحقيقية للمسألة، وول ستريت، فقد أهملت كليًا.