1
أكثر من 521 عائلة فلسطينية أبادها الاحتلال الإسرائيلي بشكل كامل منذ بداية حربه الوحشية على قطاع غزة، وأكثر من 4600 شهيد قتلهم الاحتلال منذ بداية حربه المسعورة على القطاع (حتى لحظة كتابة المقال)، وكما قال محمود درويش: فهذه "الشهيدة بنت الشهيدة بنت الشهيد وأخت الشهيد وأخت الشهيدة كِنَّة أم الشهيد حفيدة جد الشهيد وجارة عم الشهيد"، هؤلاء جميعًا يسقطون ضحايا لجريمة الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة، والتي يُشاهدها العالَم المتمدّن بصمت أو بكلمات درويش: "ولا شيء يحدث في العالم المتمدن". يتحسّر درويش بعدها على الزمن البربريْ الذي انتهى "فالزمن البربريْ انتهى"، وكأنّه يَخلقُ لهذا الزمن ملامح عصبيته الإنسانية الخاصة البعيدة عن صمت العالَم المتمدّن وتواطئه مع فكرة قتل الفلسطيني وإبادته.
إنّ الزمن البربري الذي يتحدّث عنه درويش هنا، هو زمن آخر غير زماننا، الخاضع لمعايير الإنسانية الغربية، والذي لا يتّم التعامل معكَ فيه على أنّك إنسان إلا إذا كنتَ أشقرَ بعنينين زرقاوين وبشرة بيضاء، إنّه زمنٌ آخر يعترف بأحقية جميع البشر في حياة حرة وعادلة، بعيدًا عن أسر الاحتلال وغطرسته، إنّه زمن آخر لا يتمّ فيه انتهاك الكرامة الإنسانية لجماعة وطنية كاملة (الفلسطينيين) ووصفهم بأنّهم حيوانات بشرية، وإعطاء الضوء الأخضر لآلة عسكرية حربية وحشية بقتل وإبادة أكثر من مليونيْ شخص منهم، بالصواريخ والبراميل المتفجرة، والقنابل الفسفورية والعنقودية، وأساليب التجويع وقطع الماء والإمدادات الصحية عنهم، إنّه زمن آخر لا يَفهمه قادة العالَم المتمدّن، وهو زمن يتمنى الفلسطينيون في غزة وفي كلّ مكان لو عاشوا فيه، لأنّ ملامح البربرية التي فيه هي أقصى درجات الإنسانية التي لا تفهمها وتُدركها قواميس ذلك العالم ومعجمياته!
الزمن البربري الذي يتحدّث عنه محمود درويش هو الزمن الخاضع لمعايير الإنسانية الغربية، والذي لا يتّم التعامل معكَ فيه على أنّك إنسان
2
قرأتُ في منشور فيسبوك لأحد الأصدقاء من غزة أمنية هي أشبه بالوصية يطلب منها ممن يعرفه أن يكتبَ عنه إذا ما استشهد، ويقول بأنّه يخافُ من فكرة أن يغدو في خبر شهادته رقمًا يمرّ سريعًا على الأشرطة الإخبارية دون أن يلتفت إليه أو يذكره أحد، الكثير من الأصدقاء الآخرين الذين تحدّثتُ معهم من غزة طلبوا مني أن أكتبَ عنهم في حال استشهادهم، وأن أتذكّرهم وأذكرهم، فلا أحد منهم يضمن حياته في ظلال المحرقة التي تحدث فوق رؤوسهم في كلّ وقتٍ وحين.
كنتُ أفكّر في ذلك وأقول في نفسي: لماذا لا نستحدث كفلسطينيين وظيفة جديدة تليق بحجم المجازر وجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها بنا عدونا مرارًا وتكرارًا على مرأى ومسَمع العالم أجمع، أجل لماذا لا نستحدث وظيفة لعدد منا ممن يُتقنون اللغة والكتابة ونسميهم "ماكينات لكتابة المراثي"، هؤلاء يكون عليهم في كلّ مجزرة إبادة جماعية تحدث أن يُدققوا في قصص شهدائنا، ويستمعوا إليها، ويُمعنوا في تفاصيلها ثمّ يكتبونها في مراثي طويلة يروون فيها حياة شهدائنا وأحلامهم مخاوفهم وتطلعاتهم، يَمرون فيها على كلّ تفصيلة حدَثت في حياة شهيد، ويكتبونها كأنّهم عايشوها، وهكذا يظلّ هؤلاء ممن يقعون خارج المجزرة يكتبون قصص الشهداء ممن يقعون فيها حتى يأتي عليهم يومٌ آخر يكونون فيه داخلها ويُسلّمون وظيفتهم المقدّسة لقسم آخر منا ممن هم خارجها، وهكذا يظلّ بعضنا يكتب مراثي البعض الآخر حتى ننتهي جميعًا!
3
كثيرٌ هذا الموت على غزة، أكتبها وأنا أعرفُ أنّني بينما أكتبُها هناكَ في غزة طائرة حربية تقصف وشهداء يَسقطون، كثيرٌ هذا الموت على غزة، أكتبها وأنا أسمعُ صراخ من بقوا وبكائهم وعويلهم، كثيرٌ هذا الموت على غزة، أكتبها وأكرّرها، أعيدها في رأسي كتعويذة، كاعتذار، على ترف الكتابة بينما المجزرة تحدث، والطائرات الإسرائيلية تقصف، والبيوت تتهدّم، والأكفان تزداد، أكتبها وأنا أسألُ نفسي عن ماهية الكتابة في أزمنة الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وأقول: لعلّها ليست أكثر من استراحة بين بكائيْن!