مشكلة الإطارات أنها تستمر في الدوران. مشكلة الصوت أنه يستمر في الارتفاع إلى خارج الغلاف الجوي. مشكلة القطط أنها تعوّل على القدر أكثر من اللزوم، فتخطئ في عبور الأوتوستراد السريع. ليس هناك حلّ لكل مشكلة. مشكلة اليأس أنه مقيم. مشكلة سيارة الإسعاف أنها سيارة إسعاف. لا يمكنها الوصول قبل حدوث الاصطدام. كذلك النزيف. مشكلته أنه نزيف. أحيانًا يتوقف بعد فوات الأوان. أحيانًا يحدث أمامنا، ونعرف أنه يحدث. ونحن نقرأ الخبر، الذي يقول إن فاطمة، وبناتها الأربعة، بالإضافة إلى سائق السيارة، توفين بعد حادث على الأوتوستراد السريع، نعرف أن ثمة نزيف حدث. ولا ننتبه، إلى أن الحوادث ستستمر. ننشغل بالموت، لكن ثمة نزيف مؤجل.
فيما كانت الشمس تسأل نفسها عن جدوى الإشراق فوق هكذا بلاد، من جهة الغرب كان البحر غاضبًا لا يضحك
نعرف أن الآخرين سينزفون هنا لاحقًا. لكننا لا نعرف وجوههم وأسماءهم بعد. وقد نصرّ على معرفة أسمائهم، لتبرئة أنفسنا من الاحتمالات، ولكي نقول إنهم ليسوا ولسن أرقامًا. لكن الوجوه أبقى. لا فارق كبيرًا بين الأسماء والأرقام، لأنها تصنيفات عمومية في الحالتين. لا يوجد في هذا العالم شيء أقوى من الوجوه. وجوههن. خمسة وجوه. الأم، الطفلة الأولى، الطفلة الثانية، الطفلة الثالثة، الطفلة الرابع. والذي يجد العد مملًا، عليه أن يبحث عن كل وجه على حدة. عليه أن يتخيّل نفسه بلا وجه.
اقرأ/ي أيضًا: الصوت المسروق: لمن يُقتل الرأي الآخر في فلسطين؟
عندما ننطفئ، خلف شاشة التلفزيون، في الثانية فجرًا، تصاحبنا أسماؤنا إلى النوم. تنطفئ وجوهنا قبلنا. وإذا لم نستيقظ في اليوم التالي، فهذا يعني أن وجوهنا انطفأت إلى الأبد. قد تنجو الأسماء لفترة أطول، لكن عباس بيضون على حق: الموت يأخذ مقاساتنا. يأخذها معه ولا يعيدها. الوجوه تعمل بطريقة مختلفة عن كل شيء. ما نعرفه أن العائلة التي قتلت في "حادث سير" ليست العائلة الأولى، ولن تكون الأخيرة. نعرف وجوههن. ويمكننا أن نفترض، رغم أن الكتابة لم تعد أمرًا محببًا، أنهن قبل الحادث بدقيقتين، كن منشغلات بالحياة. ما يحدث في الحياة. الصيف، المنزل، الطريق، الأشجار، التلفزيون، الهواء، الحرّ، البحر، الألعاب، وكل الأدوات التي تستخدم في الكتابة، في التفكير، في الأحلام، في التذمّر، في البكاء، وفيما يجعل الوقت بيتًا، والسماء سقفًا. بعد الحادث انشغلن بالموت. توسدن الغيوم. لن يفتحن نوافذ السيارة، لأن السيارة طحنت. لن ينزلن منها. سيتركن الطريق إلى الذئاب.
في اليوم التالي يبزغ الفجر من فوق الجبل. وفيما كانت الشمس تسأل نفسها عن جدوى الإشراق فوق هكذا بلاد، من جهة الغرب كان البحر غاضبًا لا يضحك. وكان الحزن عميقًا، والأوتوستراد مثل بقية الأمكنة، في مكانه تمامًا. نغادر الأمكنة ولا تغادرنا. لا نعرف كم من الوقت نصرف فعلًا ونحن نفكّر بالموت، وكيف يفكّر هو بنا. يخبرنا هايدغر أن هذه هي حقيقة الحقيقة: العدم، أو بالتحديد، وجودنا داخل هذا العدم، ووجوده خارجنا. نحاول طوال الوقت، أن نقذف العدم إلى الخارج، ولكننا نعرف دائمًا أننا مهزومين من الداخل، وأنه في النهاية علينا أن نواجه كل شيء بمفردنا. وأن محاولاتنا في حماية الوجود بتأجيله إلى ما وراء الموت، ليست سوى محاولات. مشكلة الوجود أنه موجود. العدم سيربح دائمًا. الحياة الوحيدة هي الحياة، والموت الوحيد هو الموت. والأوتوستراد ليس قاتلًا بحد ذاته. هناك قتلة يعيشون بيننا. الموت يعيش بيننا، خلفنا، وينتظرنا أيضًا.
لا نعرف كم من الوقت نصرف فعلًا ونحن نفكّر بالموت، وكيف يفكّر هو بنا. يخبرنا هايدغر أن هذه هي حقيقة الحقيقة: العدم
بعد منتصف الليل يهدأ الأوتوستراد السريع. تعبر الذئاب بأعداد أقل. برؤوسها المطأطأة لا تضيف أعمدة الإنارة شيئًا إلى المكان. تؤكد الظلام. يخرج صوت المذيع من الراديو شاحبًا. ليس فقط لأنه يتحدث غصبًا عنه، إنما لأنه يعرف أننا نسمع غصبًا عنا. يتبادل الأوهام معنا، نحن المستمعين، ومع نفسه أيضًا. تستمر فيالق الذئاب بالعبور ولكن بأعداد أقل. تتوثب السيارات أمام بعضها البعض. تحاول النجاة. على هذه الطريق مات الكثيرين، من دون إحصاء، لكننا نعرف أنهم كثيرين، أكثر من أن نستطيع عدّهم. كل ما يمكننا فعله، في اللحظات الأولى، ونحن نتفرج، هو أن نتذكّر. نتذكّر أننا لم نفعل شيئًا سوى العد، وسوى أن نتذكّر لاحقًا، أن الأرقام صارت أكثر من قدرتنا على إحصائها.
اقرأ/ي أيضًا: الإرباك الليلي.. المقاومة كخيار ثابت
ونحن نعبر الأوتوستراد السريع، في الطريق من بيروت إلى الجنوب، نحاول النجاة بدورنا، من بعضنا البعض. نعيد اختراع القدر، نعتقد أنه يتدحرج حولنا. ندوس بإطارات السيارات على الحقيقة. كتمرين على الموت، يقول المثل العامي: "كلنا على هذه الطريق". الطريق هو العدم. لكن، لا ورود على الجانبين، ولا صوت يؤنس الوحشة. ما يقوله محمود درويش صحيح. سيجدن أنفسهن وحدهن. في الحياة وفي الموت. في اللحظة التي ركنت فيها السيارة تحت الشمس، وكن يضحكن، قبل أن تنطلق مجددًا، وفي اللحظة الأخيرة، لحظة الاصطدام. وحدهن، مثل زهر البيلسان، كما تقول الأغنية الرهيبة. فاطمة، وبناتها الأربعة، كل واحدة على حدة، كل واحد منهن لوحدها، في البياض.
اقرأ/ي أيضًا: