مثل الأحلام هي المدن. رغبات ومخاوف. تقوم على قواعد عبثية، وتخدعنا أبعادها. كل شيء فيها يخفي شيئًا آخر.
- إيتالو كالفينو، مدن غير مرئية
الزمن
إنها العاشرة صباحًا في بيروت كما تشير الساعة على الهاتف. وعلى ما يبدو هذا ليس دليلًا قاطعًا إلى صحة التوقيت. في مثل هذا الوقت، وفي مثل هذه الأيام تحديدًا، تكون المدينة أكثر ازدحامًا، ويكون الشارع أكثر صخبًا. يعرّف عن نفسه بالضجيج، ويتبادل المارة موافقتهم على سير الحياة بخطواتهم السريعة عبر الشارع ذهابًا وايابًا. يسيرون باتجاهين مختلفين، وباطمئنان شديد إلى أن الحياة تسير باتجاه واحد، وأنهم في النهاية يسيرون إلى الأمام. وعندما يقول أحد ما إننا نمشي إلى الوراء فهذا يدفعنا إلى الضحك بسبب مغالاة المجاز، وإلى عدم التصديق. لا يمكن أن يحدث شيء مثل هذا في النهاية. سنمشي دائمًا إلى الأمام، ولا نعرف ما الذي ينتظرنا، أو متى سنتوقف. نحن جزء من هذا الزمن، ولا يمكننا العودة إلى الوراء، مهما بلغت درجة الاعتراض.
لم يعد الاعتراض على ارتفاع ثمن الحياة مجديًا، وما يهم الآن هو إنقاذ الحياة
لا يوجد شيء اسمه عودة إلى الوراء، من دون دوران كامل. وإذا كان هناك أشخاص في الشارع يلتفون حول أنفسهم، ويفتقدون وجود الحياة في الشارع صباحًا، ويعودون إلى الوراء، فإنهم يفعلون ذلك أنفسهم، وبشروط محددة سلفًا. الشارع سيبقى في مكانه، يراقب سير الزمن باتجاه وحيد.
اقرأ/ي أيضًا: مغادرة الجماعات
سيارة الإسعاف
لم يتغيّر شيء بعد نصف ساعة. همّت سيارة الإسعاف بمغادرة زقاق المبنى الجانبي الذي احتلته قليلًا، وبدأ المتفرجون يفكّرون بالمغادرة بدورهم. لا أحد منهم يملك اجابةً واضحة عمّا يجري، ولذلك فضّلوا ألا يطرحوا الأسئلة على بعضهم البعض. اكتفوا بالفرجة والانتظار. وليحدث ما سيحدث. الزحمة الخفيفة التي تسبب بها إغلاق الطريق لبرهة قرب المبنى الذي صممت واجهته على نحو دائري تحللت تدريجيًا، واكتسب وجود الشرطي المعنى أخيرًا.
على الجانب الآخر من الطريق تمرّ فتاة من إثيوبيا، توقفت بدورها تهيبًا لمرور سيارة إسعاف، وقد لاحظت أشخاصًا في الجهة المقابلة يشعرون بالحزن، وبينهم سيدة وضعت راحة كفها على فمها، للتعبير عن شدة الحزن كما نفهم في البداية، أو لتكتم صوت الأسى كما سنفهم عندما نقترب. يبدو أنها، بهذه الحركة، كانت تحاول اقناع الجميع بالصمت. الفتاة من إثيوبيا وضعت يدها على صليبها تضامنًا، جفلت عينيها قليلًا. اختفت سيارة الإسعاف. وانفرط عقد المتحلقين بشكل دائري أمام واجهة المبنى. يبدو أنهم اصطفوا بهذه الطريقة دفاعًا عنه، ويبدو أيضًا أنهم يشعرون بالخوف.
المصرف
عملاق خالٍ من الروح. مسلّح بالفولاذ ضدّ نظرات العابرين. منزوٍ على نفسه، وعن كل ما يحدث خارج حدوده المسيّجة بالحديد والباطون وكل مظاهر القسوة. يسبب المرور بقربه شعورًا مضاعفًا بالضيق، لشدة ما يعبّر عن التعطيل. مغلق. منكفئ. منبوذ.
المطعم
في منتصف النهار بدأت الحياة بالظهور، كشّرت عن كآبتها النائمة في الصمت. لا ضجيج بعد. مجرد أبواق خجولة، وأصوات محركات صغيرة صادرة عن الدراجات النارية التي تتوقف أمام المطعم. لم يعد الاعتراض على ارتفاع ثمن الحياة مجديًا، وما يهم الآن هو إنقاذ الحياة. ما يفعله المطعم هو محاولة يومية لتقليص خسائره، وكل ما يفعله زواره هو التذمر من محاولاته لزيادة أرباحه. لا يمكن الاتفاق على صيغة عادلة بين الطرفين. الثقة مفقودة بين السكان وبين الأمكنة، بين المتاجر وبين المستقبل، بين الطريق والأقدام التي تنهبها بحثًا عن الماضي. داخل المطعم صور معلقة في إطارات كلاسيكية. الأولى لقلعة بعلبك التي يتباهى بها اللبنانيون، كدليل على علاقتهم بالزمن. القلعة الرومانية الرهيبة، التي، على عكس ما تشير إليه الساعة على عقارب الهاتف، تحسب دليلًا قاطعًا إلى العلاقة بالزمن، بسبب قدرتها على البقاء، أو على النجاة من سيول الزمن. الثانية لشارع الحمرا نفسه في أواخر السبعينيات. وهي أقدم من عمر المطعم نفسه بكثير، الذي ظهر بعد التسعينيات. لكنه يحاول الانتماء إلى ماضٍ عريق، فتفضح الصورة أوهام الحاضر. في الإطار الثالث صورة غير واضحة لطاهٍ بملامح عربية، ولأن المطعم لبناني، يمكننا الافتراض أنه لبناني. يحمل المقلاة في الصورة ويضحك، ضحكة غير مسموعة، لأنها فقط في الصورة. مثل مطعم تعرف أنه يقدّم طعامًا جيدًا، وأنت تنظر إلى واجهته المغلقة، وأنت تعرف أن صاحبه أغلقه وهاجر إلى كندا.
المكتبة
روايات جبّور الدويهي مرتبة بإتقان على الرفوف. تحرس جزءًا من ذاكرة المدن، ضدّ وحش النسيان. لم يسقط المطر في حزيران هذا العام، ولكن ما زال التذكّر ممكنًا.
روايات جبّور الدويهي مرتبة بإتقان على الرفوف. تحرس جزءًا من ذاكرة المدن، ضدّ وحش النسيان
على الرفوف تتفق الكتب وتختلف مع بعضها البعض، لكنها تتفق على أنها كتب وأنها جميلة. تعرف أنها متروكة للنسيان، بسبب أسعارها الباهظة، وبسبب انشغال المدينة بترتيب حياة جيدة. على الواجهة، من الخارج، في مقابل الشارع تمامًا، هناك كتب بثلاث لغات، جميعها تقريبًا عن انفجار المرفأ. لطالما أضافت اللغات إلى بيروت العربية نمطًا موسيقيًا يصعب على ضيّقي الأفق وقليلي الرهافة من أعداء اللغات والتنوع تقديره. لكن هذا ليس مهمًا الآن. بيروت تفقد موقعها على الأرض، تجلس على الأرض ولا تقع. تحاول مدن الاستعمار والأبراج الزائفة النهوض ضدّها.
اقرأ/ي أيضًا: النيوليبرالية الجديدة وعمان القديمة
على واجهة المكتبة كتاب جميل عن "ساحة البرج" يحاول التصدي، حنين لا يسمن ولا يغني. إنها تقترب من السادسة مساءً في مدينة مختلة. تعاني من الدوار. مدينة بقدمين معطلتين. كل شيء يحدث في رأسها، في ذاكرتها. الرابع من آب يقترب. انفجار، انفجار.. ثم يركض الجميع، ولكن إلى أين؟
اقرأ/ي أيضًا: