يسلط هذا المقال المترجم بتصرف عن النيويورك تايمز الضوء على التكامل الغائب بين الإنسانيات والعلوم الطبية في تكوين الأطباء في الجامعات الأمريكية، وكيف دفعت جائحة كورونا إلى إعادة النظر في تلك العلاقة والتأكيد على أهميتها في سبر الجوانب المختلفة للمرض وموضوعه، أي الإنسان، وبيان الدور المكمّل للإنسانيات في "قراءة" المرض ومقاربته.
في الذروة الكارثية من الموجة الأولى لتفشي جائحة كوفيد-19 في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حصد المرض هنالك حياة أكثر من 560 ألف إنسان، أعلنت كلية الطب في جامعة ييل، إحدى أعرق كليات الطب في العالم الحديث، تعليق الدوام والتدريب، وأرسل العميد إلى الطلبة رسالة إيميل يقول لهم فيها: "الزموا بيوتكم، واستغلوا هذا الوقت في الدراسة". وعكف كادر الأساتذة في الكلية مع بعض الطلبة على التعديل على بعض المساقات والتطوير عليها، لكي تناسب الوضع الجديد، والذي سيكون فيه التدريس عن بعد. ومن بين المساقات الجديدة التي تم اقتراحها، مساق بعنوان: "كوفيد-19: تاريخٌ للحاضر".
الأهمية الهامشية للإنسانيات في اختبارات كفاءة الأطباء في الولايات المتحدة تفصح عن قناعة راسخة بأنها ليست ذات جدوى معتبرة حين يتعلق الأمر بالمعرفة الطبية
سجل في المساق 65 طالبًا وطالبة من الكليّة، إذ دفعهم الفضول بعنوان المساق ووصف الجوانب التي يعنى بها، ورأوا فيه فرصة لتوثيق تجاربهم وتجارب غيرهم مع الجائحة وتحليلها بعين نقدية جديدة. لقد كان المساق جسرًا إلى حقل "الإنسانيات الطبية"، وهو مجال واسع تتداخل فيه الفلسفة مع التاريخ مع النقد الأدبي وصولًا إلى الفنون البصرية والكتابة الإبداعية وصناعة الأفلام، ويعنى بسؤال أساسي: "ما الذي يعنيه تكوين المعالج الطبي، وما الذي يجب التفكير به عند تدريب الأفراد الذين يرعون المرضى؟".
قرأ/ي أيضًا: نعومي كلاين: فيروس كورونا يمثل الحالة الأمثل لرأسمالية الكوارث
لقد كان هذا المساق بحسب مقال طويل نشر قبل أيام في النيويورك تايمز مشروعًا تجريبيًا رائدًا للتدليل على أهمية الإنسانيات في العلوم الطبية وتدريسها، وأنها ليست مجرد "كِمالة" هامشية، بل يفترض أن تكون عنصرًا أساسيًا في تكوين الأطباء وتدريبهم واختبارهم. بعض الطلبة في المساق كتبوا مقالات مطولة عن أنماط التديّن وممارسة الشعائر خلال الجائحة، وآخرون كتبوا قصصًا معمقة عن تجاربهم مع فرق التقصّي وتعقب الإصابات، وآخرون أنتجوا أفلامًا قصيرة. ويجادل المقال بأنه ورغم أنّ أيًا من هذه المشاريع لم يجد نفعًا في وقف قطار الوفيات بسبب كورونا في الولايات المتحدة، أو سواها، لكنها كانت قادرة بحسب مولي وورثن، أستاذة التاريخ في جامعة نورث كارولاينا، على منح المهتمين بالعلوم الإنسانية والمنافحين عن أهميتها فرصة نادرة لتغيير الطريقة السائدة في تدريب الأطباء وتفكيرهم بشأن الرعاية الصحية. فالتقليل من أهمّية الإنسانيات في المجال الطبي ليس خطأ وحسب، بل هو افتراض قد يحول دون الاستفادة من دورها في سبر الجوانب الاجتماعية المتعلقة بالمرض، ولا سيما في ظروف جائحية كتلك السائدة منذ بداية العام الماضي، ما يعني أن للإنسانيات دورًا مكمّلًا للنموذج الطبّي البيولوجي في "قراءة" المرض والتعاطي معه.
ترى مولي وورثن أنه لطالما كان لبعض التخصصات الإنسانية، كالتاريخ والفلسفة، حضورًا راسخًا في تعليم الطب، وذلك في مواضيع مثل تاريخ الطب والأخلاقيات البيوطبية
وترى مولي وورثن أنه لطالما كان لبعض التخصصات الإنسانية، كالتاريخ والفلسفة، حضور راسخ في تعليم الطب، وذلك في مواضيع مثل تاريخ الطب والأخلاقيات البيوطبية. وكانت كلية ولاية بنسلفانيا للطب قد أسست أول قسم للعلوم الإنسانية ضمن الجامعة، وذلك في العام 1967، كما شهدت الإنسانيات الطبية نشاطًا متزايدًا في العقود الماضية، إذ يوجد أكثر من 60 برنامجًا في الولايات المتحدة في مرحلة البكالوريوس يدرّس الإنسانيات الطبية، إضافة إلى عشرات المراكز والبرامج الأخرى في المراحل الأكاديمية العليا.
لكن بالرغم من ذلك، فإن الحوارات التي أجرتها وورثن مع أساتذة الإنسانيات الذين يدرسون في الكليات الطبية تدل على أن الاهتمام ما يزال محدودًا بهذه العلوم، وأن أقسامهم تستقطب مجموعات صغيرة منتخبة من الطلبة الذي يتسنى لهم الشعور بفجوة معرفية في تعليمهم، ويبحثون عن مساحة آمنة للتفكير بالأسئلة الأساسية العميقة.
ومن بين الأسباب التي توردها وورثن لتفسير هذا العزوف عن الإنسانيات في الطب في الولايات المتحدة هو كون اختبارات مزاولة المهنة، والمعروفة باسم اختبارات البورد، لا تتضمن أي عنصر يتعلق بالعلوم الإنسانية، باستثناء ما له علاقة بالآداب وأخلاقيات المهنة الأساسية. هذا التهميش لهذه العلوم في اختبارات كفاءة الأطباء تفصح عن قناعة راسخة بأن الإنسانيات يمكن أن تكون مجالًا ممتعًا لبعض التخمينات وممارسة التعبير عن الذات، إلا أنها ليست ذات جدوى معتبرة حين يتعلق الأمر بالمعرفة الطبية وتطبيقها بحسب التفكير السائد في الحقل الطبي. فمثلًا، تشتمل مجلة "ذا لانسيت" الطبية، وهي مجلة بريطانية عريقة، على قسم عنوانه "فنّ الطب" (The Art of Medicine)، وفيه مقالات تركز على العلاقة الوثيقة بين الطب وحقول أخرى، مثل التاريخ والأدب وعلم الأخلاق والإلهيات والفلسفة"، ويصف محررو المجلة هذه الحقول على نحو يشي بالاستخفاف بها، فهي بحسب تعبيرهم: "تلك الحقول من التعلم التي ارتبطت منذ نشأتها بالتحليل والتفسير أكثر من عنايتها بالتجريب والأدلة".
هذه الثنائية المتوهمة، بين علوم تطبيقية تعتمد على التجريب والأدلة وتنتج معرفة موضوعية، وعلوم إنسانية غير يقينية، حرمت الإنسانيات الطبية من اكتساب المكانة المنشودة التي تستحقها، وجعلتها حتى اليوم هامشية في الخطط الدراسية في كليات الطب، إذ تقتصر على محاضرات عامة في تاريخ الطب أو علم الأخلاق، إلى جانب ترتيب جولات للطلبة على متاحف الفنون أو المشاركة في عروض موسيقية كلاسيكية، وهي فرصة يستغلها الطلبة عادة بالراحة والتخلص من الضغوط، بدل أن تكون فرصة لاكتساب طرائق جديدة في التفكير.
أعادت الجائحة التفكير في العودة الضرورية للإنسانيات في المجال الطبي، وهي عودة إلى مقاربة قديمة كانت هي السائدة في الماضي بين كبار الأطباء والفلاسفة
إلا أن الجائحة أعادت التفكير في العودة الضرورية للإنسانيات في المجال الطبي، وهي عودة إلى مقاربة قديمة تعود بحسب وورثن إلى ما كان سائدًا في الماضي بين كبار الأطباء والفلاسفة، والذين لطالما جادلوا بأن الطب لا ينفصل عن الإلهيات ولا الفلسفة الطبيعية، فالخلل في جسد الإنسان أو البيئة التي يعيش فيها ينجم عنه خلل في النفس، أو العكس، وثمة ترابط وتداخل بين الجسد والروح، يشي بأن الصحة مفهوم مراوغ لا يقتصر على جانب دون آخر في الإنسان. لا شكّ أننا ندين بالكثير لتطوّر العلوم الطبية في العصر الحديث، إلا أنه لا بدّ من الإقرار بأن ثمة ما نزال نعجز عن إدراكه اليوم بشأن العلاقة بين الشرط الإنساني والطب الحديث، وهذا ما يدفع وورثن إلى المطالبة في نهاية مقالها بضرورة أن تراجع كليات الطب مناهجها ومقرراتها، وأن تدرك دور الإنسانيات الأساسي في العلاج واحتواء الأمراض والأوبئة، على أمل الوصول إلى إسهام أكبر من قبل الأطباء في تقديم مقاربات جديدة للأسئلة الكبرى المتعلقة بالتمثيل والذاكرة والأخلاق واللغة.
اقرأ/ي أيضًا:
ما أهمية الإنسانيات في زمن كوفيد-19؟
نعومي كلاين: فيروس كورونا يمثل الحالة الأمثل لرأسمالية الكوارث