في عهدي السادات ومبارك، كان المجال العام مصممًا بحيث يملأ الإسلاميون مساحته الخاصة بمحاولة ضبط المجال العام، وتخويف أي تجاوز لما يعتبرونه الحدود التي يسمح بها الدين، وهو ما جوبه أحيانًا بتسامح من السلطة مع ذلك، وأحيانًا أخرى بمحاولة ضبط محاولات الضبط هذه نفسها، حين تراها الدولة قد جاوزت، بدورها، المسموح بها، الآن، كل ذلك من الماضي.
تخوض الدولة المصرية، للمرة الأولى، حربًا استئصالية للتيار الإسلامي، وهو شيء جديد عليها مثلما هو جديد على المجتمع، ومربك لها كما هو مربك للإسلاميين. كانت الدولة المباركية تخوض حربها ضد الجماعات المسلحة من الإسلاميين، تاركة مساحات واسعة لتحرك الجماعات الأقل عنفًا، كالإخوان، ومع هذه المساحات تركت لهم حق ضمني في مساءلة أي خروج عن "الآداب العامة"، ومع انتشار الخطاب الإسلامي، تمكن الإسلاميون من إعادة تشكيل المجال العام، بحيث أصبحت قيودهم، هي نفس القيود التي أصبحت الدولة نفسها مؤمنة بها.
اقرأ/ي أيضًا: قضايانا الأساسية وتصدير اليأس
تواجه الدولة المصرية تحديًا صعبًا، ففي اللحظة التي تحارب الإسلاميين بعنف، تحاول القيام بدورهم المجتمعي وتحتوي الميول المحافظة لجمهورهم الواسع
في حين قلت سطوة الحضور الإسلامي في خطابات الضبط المجتمعي، مع توحش الدولة ضده وانشغاله بمعركته ضدها، كما أنه قد فقد، في خضم معارك الثورة، جزءًا رئيسيًا من هيببته المجتمعية، واحتمائه بقدسية الدين، فأصبحت حتى خطاباته الضبطية تلك، تواجه برفض قاسٍ وسخرية من التيارات الأخرى، وهو ما أنتج بدوره، منذ الثورة، انفتاح مساحات للحركة والكلام، كانت ممنوعة قبل الثورة، بحكم السطوة المجتمعية والثقافية للإسلاميين، وأربك ذلك الإسلاميين، الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن إعادة تشكيل تلك الهيبة مرة أخرى، حتى في ذروة امتلاكهم لأدوات إعلامية وحكومية لم يمتلكوا ربعها يومًا ما.
جاء الجيش للحكم، إذن، في وسط مجال عام، أصبح غير متحكم به من قبل الإسلاميين، وإذن أقل انضباطا، وأكثر جرأة في مخالفة القواعد الموجودة منذ الصحوة الإسلامية، سواء كانت تلك القواعد تتعلق بسلوكيات مجتمعية، أو بكيفية مناقشة الأفكار المتعلقة بالدين والجنس، وبالتالي، وجد نفسه في مفترق طرق، الطريق الأول، أن يتسامح مع هذه الخطابات العلمانية الجريئة، ويعتبرها حليفة في مواجهة بقايا هيمنة الإسلاميين، وهو الرهان الذي بدا شديد المنطقية في أعين الكثيرين الذين اندفعوا لنقد خطابات الإسلام السياسي، وأحيانا الإسلام نفسه، مستندين إلى وهم أن الجيش، سيجد خطاباتهم تلك سندًا له في معركته، هذا إن لم يتبناها أصلًا.
الطريق الثاني، هو أن الجيش نفسه، ورغبة منه في عدم الظهور بمظهر علماني، يتيح للإسلاميين المزايدة عليه دينيًا، سيحاول أن يملأ الفراغات التي سيتركها الإسلاميون، بحيث تبقى الحدود التي فرضوها على المجتمع، في سطوتهم، كما هي تمامًا.
لفترة قصيرة، بدا أن الجيش سيتخذ الطريق الأول، كان لا يزال في ذروة صراعه مع الإخوان واحتجاجاتهم، ما جعله يترك مساحات واسعة لتجاوز قيودهم المجتمعية، وتحمس بعض العلمانيين، منهم إسلام البحيري، لذلك، فقدموا برامج تليفزيونية، تحاول أن تقول رأيها في الدين، كما لم يتح لها أن تقوله بصراحة من قبل، كما احتفل أنصار الجيش من الثوار السابقين، بمواد الحريات في الدستور الجديد، لكونها تفتح أبوابًا كانت مغلقة من قبل، وعاش "الليبراليون" في فقاعات يوتوبية لبوادر أول سلطة علمانية مستبدة ستقضي على الإسلام السياسي من جذوره، قبل أن يفيق كل هؤلاء، فجأة، من أحلامهم.
بعد كسره للحراك الإخواني ضده، بدأ الجيش يغير استراتيجيته تجاه المجال العام، فابتدأ بمحاربة العلمانيين الذين ساندوه في إزاحته للإخوان من الحكم، ورمى بـ"الجناح الديمقراطي في السلطة"، وهو مجموعة الليبراليين الذين دخلوا الحكومة ممثلين عن العلمانيين الثوريين، وراء ظهره، وبدأ يتفلت من أي التزامات تجاه القوى التي ساندته، أو تلك التي تصورت أن حكمه سيكون فرصة مثالية لها للصعود.
اقرأ/ي أيضًا: كيف يساهم "مناهضو التطبيع" في تفتيت الإجماع ضده؟
أخذت السلطة المصرية، في ملاحقة كل الأماكن والفعاليات المنفلتة من الضبط، أو التي تشكل مساحات اجتماع للمنفلتين، بداية من مقاهي وسط البلد، التي أخذت في إغلاقها، ومرورًا بالفعاليات الفنية التي تقام في الشارع مثل "الفن ميدان"، وليس انتهاءً بإلغاء العديد من الحفلات الغنائية مثل حفلات موسيقى الميتال، بدعوى أنها حفلات لعبدة الشيطان.
وبالتوازي مع الحملة على المساحات نفسها، كانت هناك حملات لإعادة ترسيم الحدود التي خطها الإسلاميون للحديث في الدين، وتجاوزها الناس في الثورة، فبدأت في ملاحقة الشباب الذي أعلنوا إلحادهم وتصاعدت معدلات الأحكام القضائية في تهم ازدراء الأديان، بشكل لم تبلغه في وقت مبارك، حتى وصلت إلى سجن إسلام البحيري، الذي كان قد شن في حماسته هجومًا حادًا على سلطة الأزهر، بنفس التهمة، قبل أن تلحقه مناصرة الجيش الأكثر حماسة منه، الكاتبة فاطمة ناعوت، والتي صدر بحقها حكمًا سجنًا بنفس التهمة أيضا، بعدما هاجمت ذبح الأضحيات في الشوارع في عيد الأضحى، ولكنها هربت من مصر إلى كندا، لتفلت من مصير البحيري.
لم تكتف الدولة بذلك، فتعقيدات قضية الروائي أحمد ناجي يمكن أن تساق مثالًا ساطعًا، إذ بعد براءته في تهمة "خدش الحياء" بعد نشر جريدة "أخبار الأدب" شبه الحكومية، فصلًا من روايته "استخدام الحياة"، استأنفت النيابة الحكم، ليتم الحكم في الاستئناف بالسجن عامين، بسبب الألفاظ الجنسية الصريحة التي استعملها في ذلك الفصل. كانت قضية ناجي ذات دلالة كبيرة، فهو الروائي الأول في مصر، الذي يتم الحكم عليه بالسجن بسبب روايته، ويأتي ذلك لا عن طريق عنف رمزي صاخب من الإسلاميين لمحاكمته، كما حدث قبلًا في قضية نصر حامد أبو زيد، أو في أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر"، بل عن طريق النيابة نفسها، التي تحمست للموضوع وعوضت غياب الإسلاميين من الساحة.
قلت سطوة الحضور الإسلامي في خطابات الضبط المجتمعي مع توحش الدولة ضده وانشغاله بمعركته ضدها
في هذا السياق، تأتي حملة الدولة الضبطية في رمضان الحالي، بداية من الفتوى الرسمية لدار الإفتاء التي جرمت فيها المجاهرة بالإفطار، والحملة الأمنية التي شنها حي العجوزة لمعاقبة المقاهي التي تفتح في نهار رمضان، وأخيرًا قرار هيئة حماية المستهلك، بوقف مجموعة من الإعلانات التي رأت أنها استعملت إيحاءات جنسية تخل بالآداب العامة للمجتمع.
حماسة الدولة تلك لا تأتي فقط من رؤية سياسية ترى أنه يجب الحفاظ على الحدود التي فرضها الإسلاميون على المجتمع، حتى لا يجد هؤلاء أي انتهاك لهذه الحدود فرصة لإعادة طلب أحقيتهم بالتواجد لفرض هذه الحدود، وإن كان هذا سببًا من الأسباب، بالإضافة لذلك، ترى الدولة المساحات الواسعة التي خرجت من دائرة الإسلاميين المنضبطة خطرًا عليها وناتجًا من نواتج الثورة التي تحاول محاربة آثارها، وبالتالي تعتبر حربها الضبطية تلك، جزءًا من استعادة سلطتها المجتمعية، وجزءًا من تضييق الخناق على القطاعات الشبابية المتمردة.
أخيرًا، تواجه الدولة تحديًا منطقيًا، ففي اللحظة التي تحارب الإسلاميين بعنف غير مسبوق، وتتهمهم جميعًا بالإرهاب والتطرف، تحاول أن تقوم هي بدورهم المجتمعي، وأن تحتوي الميول المحافظة لجمهورهم الواسع، بالظهور كسلطة غيرة على الدين مثلهم، وبالاستعانة بمؤسسة الأزهر، التي كما لم تبخل بأي مجهود في إسباغ الشرعية على الانتهاكات والمذابح التي قامت بها الدولة ضد الإسلاميين، لم تبخل بالجهد أيضًا لإسباغ الشرعية على عمليات الضبط المجتمعي وتحجيم المجال العام باسم الدين، وفي مقابل ذلك، تقوم الدولة بفتح مساحات إعلامية واسعة للأزهر ومحاولة ترسيخ مكانته وتسويقه كحارس للدين بديلًا عن الإسلاميين، وإن لم يختلف عنهم في أي شيء جوهري، سوى في ترحيبه بحكم الجيش وبقمع الإسلاميين، ليكون الناتج العام لكل ذلك، هي سلطة إسلامية، لكن دون إسلاميين.
اقرأ/ي أيضًا: