أربعة أيامٍ مضت على الكارثة ولا نزال عاجزين عن فهم ما حدث والتعامل مع ما ترتب عليه من ألمٍ عصيٍ على الفهم والشرح والتفسير. ألمٌ يُضاف إلى آلامٍ أخرى لم يمنحنا العيش معها وفي ظلها، لأكثر من عقد، القدرة على التعامل مع ما يستجد منها. ولا حاجة للتذكير هنا بأن حياتنا كسوريين لم تكن، خلال السنوات العشر الأخيرة، سوى مأساةٍ مفتوحة على مختلف أشكال الألم.
سيعود السوريون بعد انتهائهم من التعامل مع ما خلّفه الزلزال إلى عيش مآسيهم السابقة التي ضاعف الأخير بعضها
أفكّر في ما سبق، في نصيبنا غير العادل من القهر والألم، بينما أشاهد ما لا يمكن نسيانه وتجاوز ما ينطوي عليه من حزنٍ وقهرٍ ومرارة: رجلٌ يبكي بحرقة بعد وفاة 12 فردًا من عائلته، وآخر "يزفُّ" طفيله بعد انتشالهما من تحت الأنقاض، بينما يحمل أحدهم طفلة رضيعة ولدت تحت الأنقاض حيث فقد والديها وإخوتها حياتهم، في حين ينتشل أفراد الدفاع المدني جثة رجل يحتضن أطفاله، وتجيب فتاة صغيرة أُخرجت لتوّها من تحت الأنقاض على سؤال "في حدا عندك جوا" بـ: "إخواتي بس ميتين وأمي"، وغيرها الكثير.
أسأل أصدقائي وأقاربي عن أحوالهم فيُعيدون، جميعًا، وكلٌ بطريقته، الإجابة نفسها: لا نصدق أننا نجونا! لا الدمار ولا الركام ولا مشاهد إنقاذ العالقين تحت الأنقاض، وانتشال جثث من فقدوا حياتهم أسفلها، ودفن الضحايا في مقابر جماعية؛ توحي بأن النجاة ممكنة.
لكن ما لا يقبل الشك هو أن الألم لا يزال في بداياته، وأنه سيأخذ منحىً آخر بعد انتهاء عمليات البحث والإنقاذ وربما الاهتمام بالكارثة نفسها. حينها يعود الأمل ألمًا، ويجد كل مفجوعٍ نفسه في مواجهة تساؤلاتٍ لا تنتهي حول فقده لأحبته الذين عليه الآن مواصلة حياته دونهم، بل وحول قدرته أيضًا على مواصلتها بعد فقدانهم.
قد يبرد هذا الألم يومًا، لكنه سيتحوّل حينها إلى حجرٍ يجثم فوق صدورنا طويلًا. إلى كابوسٍ لن يفارقنا ما حيينا، وما أكثر كوابيسنا ومآسينا! قُتلنا بقصف طائرات النظام ومدافعه وتحت التعذيب في سجونه، وذُبحنا على يد داعش وأخواتها، ونخر البرد عظامنا في خيامٍ رثة متهالكة، ثم ابتلعنا البحر حين حاولنا النجاة مما سبق. ضُربنا وتعرضنا للذل والإهانة في دول اللجوء لأسباب عنصرية، وللأسباب نفسها قُتلنا أيضًا. واليوم، نموت بكارثةٍ طبيعية! والمفارقة أننا سنعود، بعد الانتهاء من التعامل مع ما خلّفته، إلى عيش كل ما سبقها.
آخر ما حملته لنا أخبار الكارثة أن عدد ضحاياها قد وصل في شمال سوريا إلى 1900 شخص، وأن مئات العائلات لا تزال عالقة تحت الأنقاض وأن فرق الدفاع المدني والأهالي لا يزالون، وحدهم، يحاولون إنقاذهم. وأنه رغم مرور 4 أيام على وقوعها، لم يتدخل أحد للمساعدة، وأن الأنين ونداءات الاستغاثة التي كانت تُسمع تحت الأنقاض، وتمنحنا بعض الأمل، بدأت تخفت تدريجيًا. وهؤلاء كان يمكن إنقاذهم لو أن المساعدات وصلت باكرًا – علمًا أنها لم تصل حتى الآن – لكن العالم الذي سبق أن خذل السوريين على مدار عقد كامل، تركهم للموت مجددًا.
تؤكد الكارثة ما لا يحتاج إلى تأكيد. تؤكد أننا وحدنا، تُركنا للموت كما تُركنا قبل الزلزال، وكما سنُترك بعده أيضًا.