كنت في طائرة قادمة من الخليج العربيّ إلى الجزائر العاصمة، لكنّ الظّرف الجويّ اضطرّ قائدها لأن ينحرف بها إلى مطار إسبانيّ في البحر المتوسّط. أصابني الجوع وطلبت من شابّة فرنسية أن تعطيني قطعة من حلوى كانت تأكل منها، فقالت لي بكلّ برودة: "إنّها خاصّتي".
من المخيف أن تتفاعل النّخب الفنّية بالرّفض مع مشهد فنّي يدافع عن قداسة الجسد بتعريته، ولا تمارس الرّفض نفسه، لآلاف المشاهد الواقعية، التي تعرّض فيها الجسد، في الفضاء العربي ذاته، للحرق والسّحل والتّقطيع والتّجويع والاغتصاب
اندهشت في البداية من ردّة فعلها أو "بخلها"، فبدت لي قردة تأكل حلوى، لكنّني أرجعت سلوكها إلى سياقه، فبدت لي لحظة طبيعية جدًّا، ذلك أنّ سياقينا الاجتماعيين والثّقافيين مختلفان كثيرًا، فأنا خرّيج بيئة ترى في اقتسام الطّعام مع الآخرين من قوّة الشّخصية، بينما هي خرّيجة بيئة ترى أنّ قوّة الشّخصية تكمن في تحصيل اللّقمة بعرق الجبين والانفراد بأكلها.
إنّه من التعسّف أن نحكم على سلوك وليد سياق معيّن انطلاقًا من سياق مغاير، لأنّ في ذلك إلغاءً للاختلاف والتّمايز في التّفكير والسّلوك لدى المجموعة البشرية. ويصبح هذا السّلوك مرفوضًا أكثر إذا صدر عن النّخبة المثقّفة.
اقرأ/ي أيضًا: الثقافة الجزائرية: حين تصير الرداءة منظومة حاكمة
قبل أيّام، قام ممثّل في عرض مسرحيّ هو إنتاج سوريّ ألمانيّ مشترك احتضنه مهرجان قرطاج في تونس بالتعرّي تمامًا لمدّة عشرين دقيقة. والمثير للانتباه أنّ قطاعًا واسعًا من التّونسيين الحاضرين واصل متابعة العرض في القاعة، بينما قامت القيامة في مواقع التّواصل الاجتماعي من غير التّونسيين في الغالب.
المثير للاندهاش أكثر أنّ قطاعًا واسعًا من النّخبة الفنّية العربية كان من المنخرطين في موجة الرّفض والشّجب والتّعليقات السّاخرة. وبؤرة الاندهاش أنّ هؤلاء لم يقاربوا حركة التعرّي هذه في سياقها الألماني، الذي بات فيه الإنسان يضع كاميرا، من غير أيّ حرج، تنقل لحظاته الحميمة داخل بيته، بما في ذلك لحظاته الجنسية، وبما أنّ السياق العربي وجّه دعوة لأصحاب العرض، فلا ينبغي أن نطالبهم بتقليم ما ينسجم مع سياقهم.
إنّ الأمر يشبه أن أجرّد صينيًّا من الإنسانيّة لأنّه لا يأكل الخروف مثلي، ويأكل الفئران والقطط والصّراصير، أو هنديًّا لأنّه لا يعبد الله الواحد مثلي، ويعبد البقرة وغيرها من الكائنات.
ثمّ إنّ معظم الرّافضين لم يكونوا حاضرين، بحيث يتمكنون من مشاهدة العرض كاملًا، ليحكموا على حركة التّعرّي تلك انطلاقًا من هذا السّؤال: هل كان الأمر ضمن رؤية فنّية وإنسانية تمرّر رسالة فلسفية، أم كان مقحمًا خارج الدّواعي الفنّية والإنسانية، لإحداث استفزاز وقح لمجرّد الاستفزاز؟
يقول زهير الرّايس مدير المسرح البلدي في تونس: "إنّ ما قام به الممثّل لم يكن مجرّد إيحاءات جنسية مسقطة، وإنّما رسالة أراد من خلالها التّعبير عن انتهاك الحرمات في العالم العربي والاعتداء على الجسد". أي أنّنا مطالبون بتلقّي المشهد بلغة المسرح لا بلغة الجنس حتّى نفهمها ونتفهمها، لكن يبدو أنّنا لم نزل في الفضاء العربي بعيدين عن هذا المنطق، لأنّنا لم نتربَّ على التّفريق بين السّياقات، أو لنقل إنّنا تراجعنا في هذا الباب، في سنواتنا الأخيرة، بسبب خضوع شارعنا للرّؤية الوهابية السّعودية، التّي "خَشْقَجَتْ" يومياتنا، فباتت عدوّة لكلّ ما هو فنّي وفكري وجمالي.
ثمّ هل يجوز لي أنا الجزائريّ، والحديث قياس على كثير من العرب، أن أصادر حقّ المشهد التّونسيّ في أن يمارس حقّه في الانفتاح على الفنون في العالم، وهو حقّ أثمرته تراكمات رائعة من التّحديث، دفع من أجلها الكثير، وأنا لا أزال خاضعًا لنظام لا يخرج من تحالف مع القدامة إلا ليدخل في غيره حفاظًا على استمراره؟
اقرأ/ي أيضًا: الشباب الجزائري.. لماذا كل هذا الحصار؟
إنّه من المخيف أن تتفاعل النّخب الفنّية والمثقّفة بالرّفض مع مشهد فنّي يدافع عن قداسة الجسد بتعريته في سياق فنّي، ولا تمارس الرّفض نفسه بالحرارة نفسها، لآلاف المشاهد الواقعية، التي تعرّض فيها الجسد، في الفضاء العربي ذاته، للحرق والسّحل والتّقطيع والتّجويع والاغتصاب والانتهاك، وهو ما يُدينه هذا المشهد نفسه.
أين كانت هذه الأصوات حين تحوّلت الأزيديات، مثلًا، إلى حطب جنسيّ لنيران الدّواعش، الذين خرجوا علينا بجهاد النّكاح؟ لقد نجح الفقيه في فتح جميع قلاعنا، بما في ذلك قلعة الفنون، التي باتت مطالبة بأن ترتدي جلبابًا، وإلّا قادت ممارسيها ومنتجيها ومستهلكيها إلى الموت في أبشع تجلّياته. وإنّ أبشع خيانة يقترفها الفنّان العربي اليوم في حقّ الفنّ أن يقع في مجاملة هذا الفقيه، الذي ظهر متواطئًا حدّ القرف مع السّياسي القاتل.
اقرأ/ي أيضًا: