إذا ما أردنا أن نحتسب أيام العطل الرسمية في لبنان، سواء عطل نهاية الأسبوع أو عطل الأعياد والمناسبات الدينية والطائفية، خصوصًا تلك التي طالت القطاعات التعليمية في لبنان خلال شهر نيسان/ أبريل من العام الحالي فقط، يمكن القول إن عدد أيام التدريس لم يتخطَ العشرة أيام بأحسن الأحوال، وأكثر من العشرة أيام بقليل هي أيام العمل في المؤسسات التي لا تندرج في سلك التعليم، بل في بقية الأسلاك، وبقية ميادين ومجالات العمل، سواء في القطاع الخاص أو في القطاع العام.
إذًا، في دولة تنهار وتتآكل وتتحلل، أو بالأحرى دولة انهارت، ها نحن نراها تتفنن خلال ممارسة عملية السقوط الحر. دولة تحتاج إلى كل ساعة، وإلى كل دولار جديد لكي تحاول سد أي ثغرة تواجهها وتعيق طريق ناسها ومستقبلهم، تحتاج إلى ما يتخطى 72 ساعة عمل في اليوم إذا ما أرادت تكثيف الإنتاج المباشر لعلها تصل إلى مرحلة يمكن القول فيها إنها عتبة تستطيع السلطة بعدها التخفيف من حدّة الانهيار وليس الخروج من آثاره، ولا التعافي منه.
تبقى السلطة في لبنان، وتبقى الدولة وأجهزتها معها، على سلوكها المعتاد، وعلى المنوال ذاته الذي كان قائمًا قبل الانهيار، دون أن تغيّر ولا تحرّك أي ساكن
تبقى السلطة في لبنان، وتبقى الدولة وأجهزتها معها، على سلوكها المعتاد، وعلى المنوال ذاته الذي كان قائمًا قبل الانهيار، دون أن تغيّر ولا تحرّك أي ساكن. بل تبقى الطوائف في لبنان، الوحدات الأولى للدولة الطائفية، تتقاسم أيام العطل بالتمام والكمال، دون أي زيادة أو نقصان بين هذه وتلك، دون أي مفاضلة وتفاوت قد ينشب عنها الشعور بهيمنة طائفة في النظام على بقية الطوائف، ليس من باب السياسة والهيمنة السلطوية المتحققة فعلًا مع هيمنة الثنائي الشيعي بشكل عام وحزب الله بشكل خاص، بل من باب القشرة الطائفية المتمثلة بالأعياد وأعطالها، ولو كان ذلك على حساب المجتمع والدولة، ولو كان على حساب الناس وعلى حساب مستقبلهم.
في الحقيقة، إن النظام في لبنان هو لربما الوحيد في الكرة الأرضية الذي يتأسس على نمط إنتاج يقوم على وقف الإنتاج، ويشجّع أيديولوجيًا وممارسيًا عليه. نعم، إن آلية عمل نظام الإنتاج في لبنان تقوم على إنتاج اقتصاد غير منتج، أو بكلام آخر تتأسس على سياسات وقف الإنتاج. بالفعل وليس على سبيل المزاح ولا السخرية، ولا بأي شكل من أشكال المبالغة، وليس على سبيل الصدفة أو في سياق نتائج عرضية تحدث بشكل مستمر دون قصد ودون تخطيط. النظام في لبنان هو نظام الإنتاج غير المنتج الذي كان يتبدى في مجموعة أشكال وسلوكيات وظواهر غير طبيعية، ولا منطقية، لطالما سادت ما قبل الانهيار، وتسود خلاله. ابتداءً من مراقبة ظاهرة كمية أموال المودعين والهبات المتراكمة في المصارف، والتي كانت تعني إنتاج المال من خلال الفوائد المصرفية وليس من خلال التشجيع على العمل والاستثمار في القطاعات المنتجة التي تقبض الزعامات الطائفية على ميدانها، والتي وصلت ما قبل الانهيار إلى ما يتخطى الـ15 % في الكثير من المصارف. ناهيك عن تشجيع الناس على عدم الاضطلاع بأدوارهم وواجباتهم تجاه الدولة ومؤسساتها، كذلك عن الازدحام المستمر للسيارات في الشوارع في أيام العمل، وغيرها الكثير من الظواهر اللافتة لشدّة معارضتها لأبسط شروط الإنتاج الايجابي.
على سبيل المثال، من الطبيعي أن تتكثّف لحظات ذروة الازدحام في كافة الدول، وعلى طرقاتها، في ساعات الصباح الأولى أثناء توجه الموظفين والعمال إلى أعمالهم، وتوجه الطلاب والأساتذة إلى مدارسهم وجامعاتهم، بالإضافة إلى تكثفها خلال ساعات المساء عندما يعودون أدراجهم إلى منازلهم. فقط في لبنان كان الازدحام يستمر كل أيام الأسبوع، وفي كل ساعات اليوم، وبالذروة ذاتها تقريبًا، وهذا إن دل على شيء فعلى كمية العاطلين عن العمل، أو بالأحرى المعطلين عنه، أي الذين يوظفهم النظام بطرق مختلفة في آلية إنتاج اقتصاده غير المنتج ذاك.
كما وأنه من الطبيعي عند اللبنانيين أن يُعاقب من يقوم بواجباته، أو من يحاول القيام بها. فمن غير المستغرب أن تعيق المواطن اللبناني مختلف أنواع العقبات خلال توجهه لتأدية واجبه الوطني لناحية دفع المستحقات الضريبية أو غيرها من المخالفات التي يفترض أن تكون بابًا أساسيًا من أبواب المالية الخاصة بالدولة اللبنانية. فبدلًا من تسهيل الأمر على المواطنين، لطالما عمدت الدولة، وأجهزتها، وموظفوها، على تصعيب المهمة، كله بهدف المماطلة والتأخير عن تأدية هذا الواجب أو ذاك. إذ لا يتفاجأ المواطن اللبناني حين ينصحه الموظف العامل في الجهاز البيروقراطي للدولة، بألا يعير الأمر أية أهمية، وأن ينتظر ويتريث بعض الوقت إلى حين قيام السلطة التشريعية اللبنانية بسن قوانين جديدة تعمل على إعفاء المخالفين، أو تسمح لهم بتسوية أوضاعهم دون تكبّد أي غرامات مالية إضافية.
في الحقيقة، إن النظام في لبنان هو لربما الوحيد في الكرة الأرضية الذي يتأسس على نمط إنتاج يقوم على وقف الإنتاج، ويشجّع أيديولوجيًا وممارسيًا عليه. نعم، إن آلية عمل نظام الإنتاج في لبنان تقوم على إنتاج اقتصاد غير منتج
هذه الملاحظات، وغيرها الكثير، ليست طارئة على النظام، وليست من خارجه، بل هي من صلبه وأساسه تاريخيًا. كما وأنها تفاصيل ومسائل ليست عرضية نابعة من خلل ما يضرب عميقًا في النظام، بل هي النظام نفسه، نظام إنتاج الاقتصاد غير المنتج هذا. النظام الذي يحاول المستحيل للمحافظة على النمو السلبي التراجعي الذي يبرر استقدامه للهبات والمنح، والذي يستكمله من خلال القيام بالمستحيل بهدف تهشيل ناسه وأولاده كي يهاجروا فيشاركوا في انتاج نظام انتاج دولة أخرى غيره. نظام يتباهى ويتغنى بالهجرة وإنتاج مواطنيه وابداعهم خلف حدوده، مادامت بعيدة عنه وعن أراضيه، دون أن يشكّل ذلك أي حرج أمامه في تحقيق شروط العملية الانتاجية غير المنتجة في بلاده وعلى أراضيه. كما أنه يشجّع المهاجرين على العودة والاستثمار في البلد، لكن كأرباب عمل، كمديرين، وليس كموظفين أو عمال أو منتجين في شركة أو في دولة. فلربما يمكن الجزم بأن لبنان هو من أكثر دول العالم التي تحوي مديرين ورؤساء أو يطمحون إلى ذلك. لذلك، من غير المستهجن أن تكون الوظائف المنتجة الضئيلة والمحدودة جدًا، لا بل الوحيدة في لبنان، هي تلك التي تقوم على الأشغال اليدوية البسيطة والزراعية الأولية والعائلية، القائمة على أيدي عاملة غير لبنانية بمعظمها، عمالة يُمارس بحقها كل أنواع العنصرية والفوقية.
هكذا يقوم "المدير" أو رب العمل اللبناني بتوظيف عمالة أجنبية بكلفة أقل وبعنصرية وفوقية أكبر، دون أي التزام بقانون العمل وأدنى شروطه الإنسانية، دون إعطاء أية ضمانات اجتماعية وصحية، ودون تكليف نفسه عناء أية أعباء إضافية. وهذا كله يخدم نظام تعمل أيديولوجيته ليل نهار على تعزيز استمرار الطبقة الحاكمة وتأبيدها، من خلال تأبيد نظامها، سواء أدركت ذلك، وسواء لم تدرك، وهنا الطامة الكبرى.