يكبر الطّفل في الجزائر على تقديس ثورة التّحرير (1954 ـ 1962)، ليس لأنّه يتلقّى أبجديات هذا التّقديس في المقرّر الدّراسي فقط، وفي ما يشاهده من حصص وبرامج في التّلفزيون الحكومي، بل لأنه يتلقّاه في حكايات الجدّ والجدّة والأب والأمّ. فهو يسمع عن تاريخ الثّورة أكثر ممّا يسمع عن تاريخ العائلة.
اعتمدت السلطة السياسية في الجزائر على الشرعية الثورية كخلفيةٍ للحكم عوضًا عن الشرعية الديمقراطية
لقد اعتمدت السّلطة السّياسية، مباشرة بعد الاستقلال، وإلى غاية اليوم، الشّرعية الثّورية خلفيةً للحكم عوضًا عن الشّرعية الدّيمقراطية. وهو ما جعلها تدرّس تاريخ الثّورة من منطلق التّقديس لا من منطلق البحث، حتى أنّه رسخ في أذهان الأجيال أن الثوّار أقرب إلى الملائكة منهم إلى البشر، فقد حضرتُ تسجيل فيلم عن ثائر معروف، وقدّ قبّل زوجته قبل المغادرة إلى الجبل، فصاح المخرج في وجه الممثّل: ما هذا؟ لماذا قبّلتها؟ هل نسيت أنك تمثّل دور مجاهد؟ لماذا خرجت عن السّيناريو؟ قال الممثّل: ولماذا خرج كاتبه عن طبيعة الإنسان؟ أليس طبيعيًا أن يقبّل الرجل زوجته وهو الخارج إلى معركة قد لا يعود منها؟
اقرأ/ي أيضًا: هل يحق لنا الاحتفال بذكرى الثورة؟
هنا يطرح هذا السّؤال نفسه: كيف يكون شعور شابّ كبر على النظر إلى الثّورة والثّوّار بهذه النظرة، ثمّ يقال له فجأةً إنّ الثّائر الفلانيّ كان خائنًا، أو لم يكن بالتّأثير الذي قرأت وسمعت عنه؟ ألا يشبه الأمر أن يقال له إنّ الرّجل الذي كبرت على أنه أبوك ليس أباك؟ ألا يؤدّي هذا الانقلاب في الصّورة إلى أن يكفر بالمشهد كلّه؟ كما أن العكس صحيح تمامًا، أن يكبر جيل على أنّ فلانًا خائن ومناهض لقيم الثّورة، ثمّ فجأةً، يُرفع عنه حكم الخيانة ويوضع في مقام المناضلين الوطنيين، من غير أيّ توضيح أو نقاش أو اعتذار. ألم يحدث هذا مع مصالي الحاج، الذي تمّ تصويره في المقرّر المدرسي على أنه رفض قيام الثورة، وأسّس أعوانه جيشًا مواليًا لفرنسا، وفجأةَ أمر الرّئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة أن "يعاد له الاعتبار"، ويسمّى أب الحركة الوطنية و"أبو الأمة"، ويطلق اسمه على عشرات المؤسسات والشّوارع؟
من منّا لم يكبر على أن جميلة بوحيرد أيقونة الثّورة الجزائرية؟ لقد تعدّى هذا الحكم الجزائريين إلى العالم كلِّه، فبأيّ منطق يطلع زميل لها في النّضال قائلًا إنّها كانت متواطئة مع الفرنسيين، وإنها دلّتهم على مكان ثوّار آخرين؟ ولأن جميلة بوحيرد نأت بنفسها عن تزكية السّياسة الحالية، ولم تظهر مع عرّابيها في المشهد، فقد سمح لهذا الكلام بأن ينتشر ويشيع، ولم تتحرّك المنابر الحكومية لتفنيده أو مناقشته على الأقل.
إلى هذا الحدّ تضيع حقائق التّاريخ أمام مصالح السّياسة؟! إذن ما هو هامش الكذب والتزوير والتلفيق والإضافة والحذف والتعتيم في ما قيل لنا إنه تاريخ وطني مشرق؟ هل هذا ما يفسّر تقاعس حكومات الاستقلال عن استرجاع الأرشيف الوطني من فرنسا؟ هل هو الخوف منه، خاصّة أنه بالصّوت والصّورة؟ هل سنقف، نحن جيل الاستقلال، على تاريخ مغاير تمامًا لو استرجع هذا الأرشيف؟
قبل أيّام قليلة، قال ياسف سعدي، قائد معركة العاصمة أثناء ثورة التحرير، إن العربي بن مهيدي، وهو كبير شهداء الثورة، لم يطلق رصاصة واحدة في حياته. وفهم من كلامه أن الرجل لا يستحق الهالة التي حظي بها. والسؤال الموجع هنا هو: لماذا سكت هذا الثوري نصف قرن، ثمّ طلع فجأة ليقول ما قاله عن ثوري كبرت أجيال الاستقلال على أنه رمز قال عنه جنرالات فرنسا إنهم لو كانوا يملكون أربعة منه لاحتلّوا العالم؟
أن تُحشى رؤوس أجيال كاملة بصورة معينة عن الثورة والثوار، ثم تطلق يد من يجرح تلك الصورة، فإن ذلك يُخرِج جيلًا بلا مرجعية وطنية
لست ضدّ أن يكتب رجالات ثورة التحرير مذكّراتهم، وأن ينحاز كل واحد منهم إلى أنانيته وذاتيته، فهذه سنّة كتابة التاريخ بأقلام أحادية، لكن شريطة أن نترك الشرعية التاريخية خلفنا، ليصبح التاريخ في عهدة البحث العلمي، ونستقبل الشرعية الديمقراطية، حيث تصبح مصداقية المواطن من مدى مساهمته في صناعة المستقبل لا الماضي. أما أن تُحشى رؤوس أجيال كاملة بصور معينة عن الثورة والثوّار، ثم تطلق يد من "يخربش" تلك الصورة، لدواع أنانية وسياسية، فلا يزيد الأمر على أن يُخرج جيلًا بلا مرجعية وطنية، فلصالح من ذلك؟
اقرأ/ي أيضًا: